فاطمة عطفة

في الإمارات، تمثل شجرة الغاف رمزاً جميلاً، وتكتسي أهمية كبيرة في الوقت الحاضر كما كانت لها أيضاً مكانة خاصة في التراث والوجدان. ولقراءة قيمة الدور وشعرية الحضور الرمزي لهذه الشجرة، كانت لـ«الاتحاد الثقافي» لقاءات مع كوكبة من الأدباء والباحثين المهتمين ببيئة الإمارات وأبعادها الثقافية والتراثية، تحدثوا لنا عما تعنيه الغافة في الذاكرة الفردية والجمعية، واستخداماتها الواقعية، وتمثلاتها الذهنية في المخيال الجمعي العام. 
وشجرة الغاف شجرة الرمال والتلال، شجرة الفيء والظلال، وهي شجرة الإمارات وحارسة الصحراء، وقد اهتم بها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، وهي من أكثر الأشجار التي زرعت في أعمال التشجير وإحاطة المدن بالمساحات الخضراء، ومنعاً لزحف الرمال.
تقول الروائية مريم الغفلي: شجرة الغاف، رمز للصمود والتكيف مع ظروف الصحراء، كما أنها تكتسي قيمة ثقافية كبيرة، ولأهميتها في البيئة المحلية تم اختيارها شعاراً رسمياً لـ«عام التسامح 2019»، وهي الشجرة الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة. وأضافت: إنها شجرة الكثبان والرمال، منزل البدوي حيث الفيْء والراحة، وهي شجرة معمّرة تنتشر في مختلف مناطق الدولة. وتؤكد قائلة: أنا أعتز بها وتبهجني رؤيتها، واتخذتها شعاراً لي منذ سنوات، ولا يكاد يخلو عمل من أعمالي من ذكرها. كما ذكرها أدباء إماراتيون آخرون، وألفوا عن تجلياتها في الأدب والثقافة. وتواصل الروائية الغفلي حديثها مبينة أن المسافرين وعابري السبيل كانوا يستظلون بشجرة الغاف، وتستشهد بالمثل الذي يتردد على ألسنة الناس عن إعجابهم بها فيقال «عويد فلان مثلاً»، والعويد تصغير عود أي الشجرة من باب التحبُّب. 

الغاف والسمر
وترى الروائية مريم الغفلي أن شجرة الغاف تنافست مع شجرة السمر في المكان، فالغاف ملكة الرمال والسمر ملكة السهول والوديان. وحطب شجر الغاف من أجود أنواع الحطب الذي استخدمه الناس في الماضي، ولا يزال يستخدم في الإمارات لجودته وطول مدة اشتعاله وقلة الدخان المنبعث منه. كما أن شجرة الغاف تعتبر أيضاً غذاء رئيسياً للجمال والماشية. 
وعن طريقة العناية بهذه الشجرة، تبين الغفلي أن تقليم شجرة الغاف يتم سنوياً كي تتجدد وتقوى، ومن أغصانها تتغذى الحيوانات، ويجفف الحطب للاستفادة منه في فصل الشتاء البارد، كما أن ثمار الغاف «الحنبل» طعام للماشية، وتستخدم في الطب الشعبي أيضاً. وتعود الروائية مريم الغفلي بذاكرتها إلى التاريخ قائلة: من أشهر الأطعمة قديماً «مگيگة الغاف» وهي عبارة عن الأوراق حديثة النمو للغاف تجمع وتقطع تقطيعاً ناعماً وتستخدم سلطة لذيذة مع الليمون، وتؤكل مع أطباق المگبوس، و«الصالونة»، كما تجمع قرونها وتسحق وتتحول إلى دقيق تصنع منه العصيدة مع السمن والدبس.

  • ‎عائشه بالخير

شجرة الذاكرة
ومن جانبها، تقول الباحثة في التراث د. عائشة بالخير: الغافة شجرة ذات مكانة خاصة في تشكيل ذاكرتنا وتفاصيل يومياتنا، ويكمن سر محبتها وتقديرنا لها في كونها صديقة لازمتنا منذ الطفولة الأولى. وقد وفرت الغافة ظلاً وموقعاً متميزاً، وفي القدم قطع بعض الأطفال سفر أهلهم فولدوا تحت الغافة أو في مواقع تطل عليها. ولاحقاً استظل بها المسافرون، فكانت ملتقى للاجتماع والراحة والتبادل وتعميق الصداقات، مثل ما ننعم به من استراحاتٍ الآن. وتبين د. بالخير أن الأطفال خاصة كان لهم من ذلك نصيب حيث كان الكبار «يغدفون» الحبال على جذوعها الصامدة ليصنعوا «مريحانات» يتغنى عليها الأطفال ويلعبون في فترة الطبخ وتسامر الكبار.
وتعود د. بالخير بالذاكرة، مرة أخرى، إلى أيام الطفولة، فتقول: في طفولتي في زعبيل كنت أتسلق الغاف وكانت ظلال الغافة ملاذاً آمناً ومكاناً للهو واللعب، ولاحقاً كانت مطبخاً لصغار الطهاة، فقد كنت «أتعازم» مع البنات فتجلب كل واحدة شيئاً واحداً من منزل ذويها، فتحضر واحدة القدر والعيش، وأحضر البصل، وتحضر أخرى علبة طماطم الصلصة، وعلى مرأى من بيوتنا كنا نتعلم الطبخ ونعود إلى منازل ذوينا بقليلٍ مما طبخنا ونتفاخر بذلك الإنجاز. وتشير د. بالخير إلى أن عود التوبة وعود ميثاء وعود المطينة وغيرها من المسميات، كلها كانت لغافة أو غاف قرر أن يجتمع في شبه غابة ويجمع تحت ظلاله الأحداث التاريخية والذكريات الخالدة، مؤكدة أن الغافة كانت جزءاً لا يتجزأ من اليوميات فمنها تصنع «المجيجة» التي كنا نقطف لجدتنا أوراقها الدانية، وتقوم جدتي «سعيدة» -رحمها الله- بفرمها فنتناولها مع الغداء المكون من عيش أبيض ومرقة السمك، كما كانت تلك الأوراق تستخدم أيضاً للتداوي وعلاجاً للإسهال، كما أذكر. وعندما تجف فاكهة الغاف تتلذذ المواشي بأكل «الحنبل»، فمذاقة هجين بين الحلو والحاذق.

حضور ثقافي
وتواصل د. عائشة بالخير سرد ذكرياتها عن جدتها التي كانت تقول، إن الغاف مثل العقار والذهب قد يصبح قديماً، ولكنه لا يموت، وتبين أن الغاف من الأشجار المعمّرة لقدرة جذوره على أن تذهب في جوف الأرض إلى أعماق سحيقة بحثاً عن الماء، مؤكدة على تفاعل هذه الشجرة الكريمة مع البيئة، فهي شجرة صامدة فوق الأرض، وتعمل من أجل البقاء وإسعاد البشر. ولذلك فهي رمز ثقافي وبيئي من رموز دولتنا الغالية التي تبذل الغالي والنفيس من أجل إسعاد العالم.
وتقتبس الباحثة د. عائشة بالخير قول المهندسة إيمان اليوسف بأن شجرة الغاف تمد جذورها بحثاً عن شجرة غافٍ أخرى وغيرها، وتتشارك الأشجار الموارد الموجودة لتقف أمامنا وبيننا وعلى مرأى من أعيينا بكل ثبات واحترام. ولم تقصّر حكومتنا الرشيدة في حماية شجرة الغاف. 
وفي الثقافة والوجدان، آن الأوان لأن يتعلم الصغار عن الغاف قصصاً ومسميات وخصائص وصفات وحوارات عن الماضي والحاضر، فبذلك نضمن استدامة الموروث ورمزية هذه الشجرة في البيئة والثقافة والوجدان المحلي.

  • راشد المزروعي

معانٍ رمزية
وفي لقاء مع الباحث في التراث الشعبي الدكتور راشد المزروعي يقول: إن شجرة الغاف من الأشجار المهمة، وهي شجرة ذات أهمية بيئية كبيرة، وتُعد الشجرة الأولى في الإمارات كونها تغطي مساحات شاسعة من صحاري دولتنا. ويضيف د. المزروعي أنه قبل ثلاث سنوات كانت شجرة الغاف شعار عام التسامح، ولم يتم اختيار الشجرة كرمز لعام التسامح إلا لأنها تكتسي أهمية كبيرة ولها معانٍ رمزية جميلة تمثل التسامح. وشجرة الغاف تمثل ملاذ البدوي وملجأه ومسكنه ومجلسه، وفي الماضي كان الناس الذين ليست عندهم بيوت يسكنون تحت أشجار الغاف، كما أن شيوخ القبائل في الماضي كانوا يستخدمون ظلال الغاف مجلساً يستقبلون فيه الضيوف.
ويرى د. المزروعي أن لشجرة الغاف فوائد كثيرة، منها أن البدو كانوا يستخدمون أوراقها سلطة مع الطعام، وتأكل أوراقها أيضاً مع الأرز، إضافة إلى أن حطب الغاف يستفاد منه للطبخ والتدفئة والحصول على الفحم. ومناطق الرمال بيئة خصبة لشجرة الغاف، وهي منتشرة في مختلف مناطق الدولة، وتمتد مناطق انتشارها من العين إلى رأس الخيمة، كما أنها شجرة معمرة، وقد يصل عمرها إلى مئات السنين، كما أن الغافة تعيش في المدن لأنها شجرة قابلة للعيش في أي بيئة، ولذلك نرى أنها موجودة على ساحل البحر أيضاً، ويمكن أن تطلع كذلك في الجبل ولكن أرضها الأصلية صحراء.
وأوضح د. المزروعي أن شجرة الغاف عندما تكون صغيرة يطلق عليها «الحضيبة»، كما يسمونها «عود». ويعود بالذاكرة إلى الماضي، مبيناً أن البدو استفادوا من شجر الغاف في تحديد المواقع، وهي تسمى حسب موقعها غافة عجمان، أو غافة العين، أو غافة الشارقة، فقد أطلقت عليها المسميات حتى يستفيد الناس من مواقعها، وكان البدوي عند السفر يخبر أهله أنه ينام عند غافة محمد أو غافة علي، وفي البادية تعرف المواقع والأماكن التي يهتدون بها في بحثهم عن حلالهم الضايع من خلال وصف المكان المراد باسم الغافة.