فاطمة عطفة

تبقى للشعر العربي مكانة متفردة بين جميع فنون الإبداع. ويزداد الاهتمام بالشعر في الإمارات أكثر من أي بلد عربي آخر، سواء الشعر الشعبي أو الفصيح، ويمتاز أبو الطيب المتنبي والماجدي بن ظاهر بحضورهما الواسع على المستوى الشعبي والرسمي، ومن هذه المكانة الشعرية المتواصلة يلتقي «الاتحاد الثقافي» الشاعر والأديب الإماراتي محمد أحمد السويدي ليحدثنا عن بعض الملامح والصور الفنية والجمالية التي يلتقي فيها الشاعران.  
يقول السويدي: من أين يعودُ إليّ المايدي بن ظاهر؟! أفيقُ على نفسي أتمتمُ شعرَهُ وسيارتي تتهادى في غبشِ الفجر بين أبوظبي والشارقة. سؤالي الاستنكاري يستنكر نفسه. (هل غاب أصلاً حتى يعود؟!)، ها هي روحه تسري مع تنفّسِ الصّبح وتعمُر المكان، فاسمُهُ شاخصٌ على ما تقعُ عليه العين، والعينُ في هذا المقام، فيلموغرافيا اللغة، بها يُكتب شريطٌ طويلٌ من الاستعادات. على هذه الأرض ضربَ المايدي عصا التّرحال، فجاءت قصائدُهُ ثَبتاً بالأماكن. رَسم وطناً ورسم دياراً معمورةً بمن شَغفوا قلبه «.. حُب من سكن الديارا»، فلم يَنسه هؤلاء بدورهم فوطّنوا روحَ شعرهِ في لغتهم، بما هي دلالة على الوجود والهوية. وإليه نسبوا عبر سنين طويلة، ما نظموه هم، وكأنهم ضَنّوا به على أنفسهم، أمام قامة سامية زادها الزمن سحراً وتألقاً. 
ويشعر السويدي بأن المايدي يملأ بروح شعره قمرة السيارة، قائلاً: أنظر إلى المقعد الفارغ بجانبي وأبتسم، ما من أحدٍ معي، لكنها فرصةٌ للحوار حتى وإن لم يردّ. وفي قِراءتنا لشعره أسئلة واستنتاجات ومرجعيات تدعونا لنتداولَ في معنى مفرداته والخلاف حولها. 

ثالثة الأثافي 
ويتابع الشاعر السويدي خواطره مع الماجدي قائلاً: المدى يمتدُّ أمام ناظري وأحجارٌ سودٌ تتناثرُ على جَنباتِ الطريق هنا وهناك، بما يُذكِّر بالأثافي وهو القائل: 
ألا واشقى من عذّب الله قلبه .. بِظْعون حيٍّ رايد العشب قادها 
على بزّل شلوا من الخود ما بغوا .. وخلو من الأثلاث جاني سوادها 
ومشهد رحيل الحي (حي الأحبة) على عادة البدو طلباً للعشب والكلأ، يثير العذاب في قلب الشاعر، على أن تفسير البعض، لمعنى البيت الثاني بأن الراحلين حملوا معهم الجميلات وتركوا غير الجميلات، قولٌ يخالف الصواب. والصورةُ تنجلي في فَهمِ معنى البيتين، فالبزّل -جمع بازل- وهو البعير الذي انشقّ نابه وذلك في السنة الثامنة أو التاسعة من عمره. وعلى تلك النياق حُمّلت الخود (الجواري النواعم)، وما تمكّنوا من حمله (ما بغوا)، مخلّفين وراءهم الأثلاث السوداء، وهي (الأحجار الثلاثة) التي يوضع عليها القدر للطبخ. ودأب العرب على نَدْبِ هذه الأحجار التي تثيرُ في القلبِ الشّجن. 

  • تمثال للمتنبي (أرشيفية)

ولم وفالع 
وتستمر الرحلة بحضور المايدي، وقد هبَّ من نافذة السيارة هواءٌ دافق، وعلى الشمال في أفق البحر سفنٌ تمخر عبابه، يتأملها بن ظاهر ويقول: 
والمشجعه نوعين ولم اوفالع .. والسفن فيها مستمر وفاع 
(الهواء الفالع) هو الذي يهب بالوجه، وقيل إنه الهواء الذي يهبّ من جهة الشمال، وهو الهواء الذي أشارت إليه الشاعرة سلمى بنت بن ظاهر فقالت: 
- لي دار لي ولم من الصدر فالع .. غمارى غاصتها خكارى سيوبها 
أي حتى لو صادفت سفينتي ريحاً ملائمة تهب عليها من صدرها وتدفعها إلى مغاصة لؤلؤ جيدة، فإن العاملين على هذه المغاصة قليلو التجربة. أمّا بيت ابن ظاهر فقريب من قول أبي الطيّب، أمّا الشجاعة فهي عند المايدي نوعان، شجاعةٌ بعقلٍ، وشجاعةٌ بدونه، كذلك فإن السفن مسافرةٌ ومقيمة وتسمى أيضاً (طارح) أي طرحت مرساتها في البحر. 
وحين كان صوت المايدي يتردَّد ملقياً بيت الشعر مصوراً للعلاقة بين الشجاعة والعقل، كنت أسمع التصادي في صوت أبي الطيب المتنبي إذ يقول: 
الرأيُ قبل شجاعةِ الشُّجعان .. هو أولٌ وهي المحلّ الثاني 
فإذا هُما اجتمعا لنفسٍ حرةً.. بلغت من العلياء كلَّ مكان 

انيو المسير 
قال ابن ظاهر: 
- وفي شف وانية المسير إلي مشت.. رويا كعود الشاكري امعدل 
فأتذكر ما ورد في معجم الألفاظ العاميّة، من أن (شف) تعني المراد والمبتغى. فيقال: (شو شفك) أي ما هو مرادك وماذا تبغي؟ والجمع (شفوف) و(شفيف). وتأتي كلمة الشف عند العرب: من شفّه الحبّ أي لذع قلبه وأنحله، ووانية المسير من ونى أي الضعف. والشاكري هو قصب السكّر، وفي لغة العرب هو من الشَّكِيرُ: وهو ما ينبت من القضْبانِ الرَّخْصَةِ بين القُضْبانِ القاسِيَةِ. والشَّكِيرُ: ما ينبت في أُصول الشجر الكبار. وشَكِيرُ النخلِ: فِراخُه. لذا وصفها بالرويا أي الريّانة العود (القوام). 
وما إن يخطر في البال الغزل في اقترانه بالعفّة حتى يحضر شعر الغزل وتحضر المقارنة والمقابلة بين شعراءَ كُثْرٍ وبين شاعرنا المايدي. ولم تفت أبا الطيّب الرّاغب عن لقاء الخُود ليلةٌ قضاها مع فتاة الحيّ وقد اصطحب سيفَه الذي لا يكرهُ النساء (غير عزهاة) ولا يميل إليهنّ، قال: 
وقد طرقتُ فتاةَ الحيّ مُرتدياً .. بصاحبٍ غيرِ عِزهاةٍ ولا غَزِلٍ 
فباتَ بين تراقينا نُدَفِّعُهُ .. وليسَ يعلمُ بالشّكوى ولا القُبَلِ 
أمّا ابن ظاهر كشاعرٍ عذري فما يكاد يطيقُ سوى وقفة سريعة عابرة مع حبيبته، حسبه ذاك في طريقٍ خَلا من المارّة، يقول: 
يا زين ما مر الفراق أو ما حلا.. 
اموادع الاثنين في ميرا خلي 

في الخّران لم يكن الأمر كما كان عليه في الأندلس أو اليمن فما إن سأل الشاعر حبيبته الوصال، حتى اقترحت عليه (كتب الكتاب) -المأذون- قال: 
قلت اوهبيني منك وصل إنني .. من عشقتي أجنع بما يتسهل 
قالت فلا أمنيك ياس أولا رجا .. ما يازلي إلا بما ياز الهلي 
دعنا نسير على طريجة قبلنا .. بامر الإله على شريعة مرسل 

أواصل السفر راكباً سيارتي على الأرض التي سار عليها ابن ظاهر ماشياً ربما أو راكباً ناقة أو جملاً. الشمسُ ترتفع تدريجياً من الشرق و(الهواء الفالع) يهبُّ من الشمال، ويجرُّ معه غيماً خفيفاً، هنا تذكّرت الروهجان. 

  • محمد أحمد السويدي

الروهجان 
قال أبو الطيّب المتنبي: 
أُنظُر إِذا اجتَمَعَ السّيفانِ في رَهَجٍ .. إِلى اختِلافِهِما في الخَلقِ وَالعَمَلِ 
الرَّهج: الغبار. يقول: إذا ارتفع غبار الحرب، فانظر إلى سيف الدولة، وإلى السيف الذي في يده؛ لتعرف فضل ما بينهما خُلقاً وعملاً، يعني أنه وإن شارك السيف في الاسم، فهو مخالف له في الخُلُق والعمل والمضاء، والعزم والفناء. 
وقال أيضاً: 
عُمرُ العَدوِّ إِذا لاقاهُ في رَهَجٍ .. أَقَلُّ مِن عُمرِ ما يَحوي إِذا وَهَبا 
يعني أنه إذا أراد أن يهب، لأنه إذا وهب الشيء فليس يملكه. 

وفي السياق ذاته، قال ابن ظاهر: 
وبي روهجان الظاعنين وشور من .. سعى ابسبة الفرقا فلا جزي طايل 
والرَّهَجُ: السحاب الرقيق كأَنه غبار، وهذا ما يشير إليه ابن ظاهر وهو يسأل الله سقيا أرض الإمارات: 
على الصجعه وما حاز العشوش .. على البطحا وتمت روهجان 
الصجعه اليوم منطقة يحتلهّا مصنع إسمنت في الشارقة، وأما العشوش فغربي الصجعه جنوباً، والبطحا هي بطحاء المرّه. والسؤال الذي يتداعى مع ذكر الروهجان والغيم الأبيض والمطر هو هل من ذِكْرٍ للغيم الأسود؟. 

رسائل الحمام الزاجل 
قبل «الواتساب» والـ«إس إم إس»، كانت هناك رسائل يبلّغها الحمام، ولعلّ ابن ظاهر اتّخذها رسولاً بينه وبين من أحبّها حيث يقول: 
ترد النبا لا من مجاري سفينه.. واسرع من اطيور الحمام الرسايل 
لم يعد الحمام اليوم يطيق السرعة الخاطفة التي أتاحتها وسائل وأجهزة الاتصالات الحديثة. وكان المصريّون والفرس أوّل من استخدم الحمام الزّاجل في المراسلات قبل ثلاثة آلاف سنة، ثمّ جاء الإغريق فاتّخذوها رسلاً لإعلان نتائج مسابقاتهم الأولمبيّة، حتّى رويتر نفسه -صاحب وكالة الأنباء- كان يتّخذ سرباً من خمس وأربعين حمامة لنقل أخبار الساعة، وأسعار البورصة بين بروكسل وآخن. 
ويشير الشاعر السويدي إلى المرحلة التاريخية قائلاً: من الحكايات الغريبة التي طالعتها في الحرب التي دارت بين بجكم الفارسيّ وعلي بن محمد البريديّ حاكم البصرة، إبّان حكم الخليفة الرّاضي بالله العبّاسي -وكانا معاصرين لأبي الطيّب المتنبي- أن كاتباً لبجكم كان معه عند انحداره إلى واسط، فجاءت حمامة فسقطت على صدر السفينة، فأُخذت وأُحضرت عنده، فوجد في رجلها كتاباً ففتح، وإذا هو من ذلك الكاتب التعيس إلى أخ له مع البريدي يخبره بخبر مجيء بجكم، وما هو عازم عليه، فأُلقي الكتاب إليه، فاعترف به إذ لم يمكنه إنكاره لأنه بخطّه، فأمر بقتله، فقتل وأُلقي في الفرات. 
فأيما كانت الرسائل التي يحملها الحمام فيما مضى، موعداً، أو بشارة، أو نذيراً، لقد أفسد اليوم «الواتساب» والـ«إس إم إس» وإلى الأبد نكهة الحبر في الصحف، ولذّة القلق إن جاز التعبير في الترقّب والانتظار. 
هذا الخاطر يفتح على خواطر عديدة في العلاقة بين جيلنا وما ورثناه من ثقافة عبر الأجيال وبين الجيل الجديد، جيلنا الذي عاش أزماناً، ألف عامٍ ربما، وكأنه يركب كبسولة الزمن، من زمن البادية إلى زمن شواهق الأبراج ومذهلات الاكتشافات العلمية، لا تغادره الأمثال الشعبية ولا الأهازيج ولا الشعر ولا الشعراء، كما هو أيضاً ابن الحداثة شعراً وأدباً، تفكيكاً وبنيوية، ويتذوق الموسيقى العالمية من أوبرا الصين إلى أوبرا إيطاليا.