إعداد وترجمة: أحمد عثمان

ميشيل ديغي... شاعر فرنسي معاصر، ولد في باريس عام 1930، درس الفلسفة ودرّسها في عدد من المدارس الثانوية، ثم في الجامعة: بروفيسور متقاعد بجامعة باريس، ترأس الكلية الدولية للفلسفة من عام 1982 إلى عام 1992، وبيت الكتاب منذ عام 1992 إلى عام 1998. في منتجه الأدبي يستدعي الفن الشعري ممتزجاً مع صعوبات الحياة، والقصيدة عنده تخضع للذاكرة والحنين بوساطة الميل الطبيعي، ولا تكف عن التحية التي لا تتلاشى أبداً، فهو يتحدث عن هذه الحياة المزدوجة بطبيعتها... هذه الحياة غير المحتملة وقتما تصبح حياتين: «الحياة» ذاتها و«حياته»، ولذا يمشي ويسأل ويسمع ويرحل.
له العديد من المساهمات الفلسفية والتنظير الشعري، وهو رئيس تحرير مجلة «شعر»، وعضو لجنة تحرير مجلة «الأزمنة الحديثة»، وفي عام 1989، حاز الجائزة الوطنية للشعر، وقبل ذلك جائزة ديدرو في عام 1979، وهو عضو أكاديمية مالارميه، ومترجم هايدغر وباول سيلان إلى الفرنسية. ومن نتاجه الشعري: «مقطع من سجل المساحة» (1960)، و«قصائد من شبه الجزيرة» (1961)، و«ما يسمع وما يروى» (1966)، و«مزاوجات» (1978)، و«طريحون» (1985). وفي هذا الحوار الموجز يكشف جوانب من تمثلاته للشعر والعالم والحياة.

*مَـن تشعر بكونك وريثه؟
- وريث تقليد يحيا منذ 2500 سنة، ونسميه فلسفة وشعر.. في حياتي، كنت دوماً قارئاً وأستاذاً للفلسفة، كاتباً وقارئاً للشعر.. أتموضع بينهما، وهذا ما أسميه «الشعرية».
* الكتابة، أي انتقال، من دون أدنى شك.. ولكن أي كتابة ولمَن؟
- أي الأمل بالانتقال إلى هذا العالم الذي نسميه الأرضي، ولكن هناك أيضاً ارتباط باللغة، بجمال اللغة.. ارتباط مزدوج، متماثل، هجين، ثنائي.. عنوان فرانسيس بونج رائع: «هذا الرأي القبلي للأشياء» الذي يتوقف على «تحليل الكلمات».. لا يتعلق الأمر بالازدواجية، وإنما بثنائية مؤسسة.. ارتباط بالأرض، ارتباط بما سمّاه الفلاسفة الانفتاح على العالم، أي بأشياء العالم. أقول طوعاً: «كلما تعددت الأشياء كان العالم صغيراً».
* هذا الإثبات للعالم لا يتحقق اليوم من دون معوقات؟
- في الواقع، الجوهر والمعنى مهدد بأن يصبح صورة، وهذا لم يحدث من قبل.. ألاحظ أنه لا يقال الكثير، في الإعلام، عن «الإسلام»، وإنما عن «صورة الإسلام»، ولا عن «السلطة» وإنما عن «صورة السلطة»، وهذا ما أسميه تطور صورة الأشياء، أو «تحولها كصورة»، أي ما يجري على الشاشة، تحت إيعاز العيش بـ«البث المباشر».
* لا تجلب الصورة لنا من الآن فصاعداً العالم إلا كأشياء معزولة أو ناقصة؟
- أرى على وجه الخصوص أنه من الضروري العمل على إنطاق الصورة.. بتعبير آخر، نجعلها تقول أي شيء آخر، تمثل خطراً عندما لا ندعها تبين الأشياء اليوم بصورة مباشرة. تحول الشيء إلى صورة هو حقل القلق الذي أموضعه إرادياً ضمن سلالة بودلير وارتيابه بصدد التصوير الفوتوغرافي، مثلاً.
* في كتبك عن الشعر والفلسفة، كلمات مثل «بقايا الأشياء الثمينة»، «فقد»، «فضالة» تتردد في غالب الأحيان.. قبالة الخراب، شيء ما من الماضي لا يؤوب إلينا إلا بطريقة غير كاملة، كوريث، هل معنى تلقي شيء ما أن علينا إكماله؟
- ليس إكماله، وإنما تحويله، نعم.. ما الذي يتبقى اليوم؟ إنه سؤال أساسي. فيما مضى، كانت هناك مزحة أصبحت شيئاً مهملاً: الثقافة هي ما يبقى حينما يتلاشى كل شيء اليوم، هناك «الإيعاز»: لنحافظ على كل شيء.. ليس بأن «نضرب صفحاً عن الماضي»، وإنما «لنحافظ على كل شيء من الماضي». تنطرح المشكلة بمصطلحات «تغيير» الماضي. ما الذي علينا فعله، في الواقع، ببقايا الأشياء الثمينة؟ ما هي هذه البقايا؟ ليست أشياء محسوسة، ليست أشياء صغيرة متعلقة بالخرافات أو الوله: هذه البقايا موجودة في اللغة التي نتحدثها والأعمال التي ننقلها، لا يجب أن نحفظها، وإنما نغيرها.
* كيف يتم العمل شعرياً؟
- في فرنسا لم نزل نحفظ بعض الكلمات ذات الإحالات الذهنية الموروثة عن الثقافة الدينية، مثل الصفح، الدعاء، التجسد... ما العمل بهذه الكلمات؟ من الضروري فهمها ضمن سياقات المعتقدات القديمة وتغييرها: هي ذي بصمة كل كاتب ملتزم.
* بصدد (آرتور رامبو)، كتب بيير ميشون أنه يمثل غالباً، لدى الكتاب الشبان، «دوامة تقمصية نفسية».. هل من الممكن أن يكون الإرث الأدبي مشوشاً؟
- في الغالب، الشباب -بما أنهم متحمسون- يعتقدون أنهم ورثة رامبو، بينما كان عصرنا مناهضاً للنزعة الرامبوية، من الأساس. لماذا؟ لأن رامبو قال إن الحياة الحقيقية ناقصة، ولكن اليوم، في وجودنا الإعلامي، تبدى «التحول كصورة»، الحياة الحقيقية حاضرة، خاضعة لهذا الإيعاز: «عيشوا حياتكم بطريقة البث المباشر». ميشون محق. من اللازم إعادة قراءة رامبو الذي قال أيضاً إن الحب في حاجة لإعادة الابتكار، أو إن الأبدية أعيد اكتشافها. بالأحرى، فشاعر اليوم يجب أن يكتب ضياع الأبدية.. لأننا لا يمكن أن نكون ساذجين في الكتابة، ولا جهلاء بالتأكيد.. من المستحيل أن تشكل قصيدة، بأي صورة من الصور، تاريخ الشعر، نحن ورثة، نتلقى، نمنح.
* هل تفكر كثيراً في قرائك؟
- بالتأكيد ! في الأساس، طوال حياتي المهنية، كنت معلماً.. أحد ما يسعى إلى إسماع شيء ما إلى آخرين سيتمكنون من الاستماع إليه، بالنسبة للقارئ، الآخر، المستمع... فعل الكتابة يتضمن المرسل إليه، أي النشر، حينما أكتب شيئاً ما، فإنه مرسل إلى شخص سيتمكن من مقاسمته، إنه الآخر في ذاته.. الكتابة، تعني القراءة بطريقة قريبة.
* هل تنشغل بمستقبل كتاباتك؟
- انشغال قديم، بطريقة ما، لا أمتلك سواه، المعنى التقليدي للخلود غائب، لا أعتقد أنكم ستجدون كاتباً يقول إنه يتمنى أن يقرأ بعد مئتي عام.. العلاقة بالمجد، الخلود، تغيرت كلياً.. الراهن هو الذي يشغل ذهني.