مدني قصري
يعتبر إدغار موران أحد أبرز وجوه الفكر المعاصر في فرنسا. وهو مفكر إنساني وعالِمُ اجتماع وفيلسوف، ومدير أبحاثٍ فخري في المركز الوطني للبحث العلمي CNRS. وقد استقبله الرئيس إيمانويل ماكرون في الإليزيه مؤخراً في ذكرى مولده المئة، بحضور مئة ضيف. وفي حوار أجراه مؤخراً، استخلص موران «دروس قرن من الحياة»، وذكر دخوله إلى المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في عام 1941، عندما كان عمره حينها بالكاد يتجاوز العشرين. وهو لا يخفي اليوم قلقه من صعود تيارات الأنانية والانعزالية، ومن تزايد دعوات التقوقع والتشرنق. ولكنه أيضاً يحتفظ بتفاؤل منطقي، ويدعو الشباب إلى «الوقوف إلى جانب كل القوى الإيجابية، ومحاربة كلّ قوى السلبية».
وهذا نص الحوار:
* إدغار موران، أنت عالِمُ اجتماع وفيلسوف. وأيضاً مدير أبحاث فخري في المركز الوطني للبحث العلمي CNRS، وعضو سابق في المقاومة. يمكننا تقديمُك بِعدّة طرق مختلفة. هل صفتا مفكر وإنسانوي صفتان تناسبانِك؟
** أنا، أكره أن أكون مختزلاً في بطاقة تعريف واحدة. ولذا، إنْ وضعتُم خمس أو ست صفات، فلا بأس!
*100 عام، على أيّ حال، فرصةٌ للتقييم، لتقديم حصيلة بطريقة ما. وهذا ما فعلتَه في كتابك «دروس قرن من الحياة» الذي نشرتْه دار دينويل، هل هذا العمل سيرة ذاتية، أم خواطر أدبية؟
** لا، ليست سيرة ذاتية. هناك عناصر سِيرة ذاتية لتنوير القارئ، حول الدروس التي استخلصتُها، أنا نفسي في حياتي، في مجالات مختلفة. فلنقلّ إذن، إن شئتم، إنها خواطر أدبية.
الهروب إلى الثقافة
*لقد عشتَ حياةً غنيّة، بدأتْ بشكلٍ سيّئ. عانيتَ من صدمة وفاة والدتك عندما كان عمرك 10 سنوات فقط. هل من كل هذه الأحداث الصادمة اسْتَمْدَدْتَ القوَّة حتى تعيش عمراً طويلاً؟
**ربما هي المقاومة التي اكتسبتُها منذ نعومة أظفاري. وربما أيضاً لأنني أصبتُ بعد وفاة والدتي بمرض غريب. مرّة أخرى تعرّضتُ لِغزوِ قِوَى الموت! ربما لعبت كل هذه العوامل دوراً في تصليب إرادتي. وفضلاً عن هذا كنت أيضاً الطفلَ الوحيد لأمي. لقد تعرّضَتْ والدتي لإصابةٍ في القلب، ولم تستطع إنجابَ طفل آخر. ولذلك كانت هناك علاقة استثنائية بيني وبينها.
وظني أنّ ما أنقذني، هو أنني كنتُ أقرأ بلا انقطاع، وكنت أذهب إلى السينما كلما استطعت. كنت أهرب من نفسي إلى الثقافة. وهذا الهروب من ألَمِي جعلني أكتشفُ الواقعَ من خلال الخيال. كنت أشاهد أفلاماً عن حرب عام 1914 التي كشفت لي عن شرور وأهوال الحرب. ورأيتُ أفلاماً تصور حال المجتمع. كانت الروايات والأفلام بالنسبة لي أهمَّ بكثير من المدرسة.
*لقد استخدمتَ كلمة «مقاومة». كان عمرك 21 عاماً عندما انضممت إلى المقاومة. قال إيمانويل ماكرون: «من الصعب أن تبلغ من العمر 20 عاماً في 2020». هل تجد أن هذه الفترة صعبة أيضاً، وقد عرفتَ الحربَ العالمية الثانية؟
**هناك اليوم حالةٌ من عدم الاستقرار ليست هي نفسها على الإطلاق. ولكن ظنّي أن الشدائد عموماً هي التي يجب أن تُحفِّز الإرادة. كانت المقاومة في الأساس من الشباب: تراوحت أعمار قادتنا ما بين 24 و28 سنة. كانت حركةً عبّر فيها الشباب عن تطلعاتهم وتمرّدهم على النازية. أعتقد أن على الشباب التعبير عن آمالهم وتطلعاتهم في الوقت نفسه، كما فعلنا نحن. ولكن، اليوم، لسنا في القضية نفسها. في أيامنا كان الدفاع عن الوطن، وحتى على نطاق أوسع، كانت الإنسانية معرّضة للخطر من قبل القوى الفاشية. أمّا اليوم فالأرض هي التي أصبحت مهدّدة. ونحن أنفسنا معرَّضون للخطر، مع التلوث والتحدي البيئي. نحن نواجه ألف تهديد، مع الصراعات وألوان التعصّب والانطواء على الذات. هناك قضايا رائعة تماماً للشباب، كالدفاع عن الأرض، والدفاع عن الإنسانية، أي الإنسانوية. وعلى سبيل المثال، هناك أمامنا الصبيّة غريتا ثونبرج -الناشطة السويدية التي تعمل من أجل وقف الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ، بالإضافة إلى شباب آخرين كثر يشعرون بجسامة هذا التحدي. وأعتقد أننا نحتاج دائماً إلى التعبئة من أجل شيء مشترك، من أجل مصلحة مجتمع. لا يمكنك أن تحقق ذاتك من خلال الانغلاق في أنانيتك، في حياتك الشخصية وحدها. كما أن علينا أيضاً المشاركة في خدمة الإنسانية، وهذا أحد الأسباب، على ما أعتقد، التي أبقتني في حالة تأهّب وتحفز للمساهمة في مثل هذه القضايا العامة حتى هذا العمر.
زمن المخاطر
*غالباً ما تتم المقارنة بين فرنسا اليوم وفرنسا في الثلاثينيات، مع ما يحدث من تفاقم في العنف، ومن انطواء على الذات. هل ترى هذا التشابه أنت أيضاً؟
**إنه تشابهٌ أراه على مستوى معيّن. كان ذلك الزمنُ زمنَ المخاطر المتزايدة التي عشناها تقريباً مثل من يمشي أثناء النوم، من دون أن ندرك ذلك. ولكنّ نوع الخطر اليوم ليس هو نفسُه على الإطلاق. في ذلك الوقت، عشنا زمنَ ألمانيا المسكونة (المفتونة) بهواجس وأوهام هتلر، وبتصوّر التفوّق الآري الذي خطّط للسيطرة على كل أوروبا بمساحتها الحيوية، واستعباد العالم السلافي. كان التهديد من ألمانيا النازية هو الخطر الرئيس. واليوم هناك أيضاً العديد من المخاطر. فهي متعدّدة الآن. أمامنا في الغرب الخطر النووي، والخطر الاقتصادي، وخطر هيمنة وتغول الرأسمالية المتوحشة في كل مكان. ولدينا أزمات الديمقراطية، كما كانت هناك أيضاً أزمات في ذلك الوقت، والتي قد تكون اليوم بالدرجة نفسها من الخطورة، وإذن، فهناك سماتٌ متشابهة بين الماضي والحاضر، ولكن هناك أيضاً سمات أخرى مختلفة جداً. وفوق كل شيء، هناك غياب للوعي الجليّ البصير بأننا نسير نحو الهاوية. وما أقوله هنا ليس أمراً محتوماً. كثيراً ما أقتبس كلمات الشاعر هولدرلين الذي يقول: «حيث يظهر الخطرُ يظهر أيضاً ما يُمكن أن يُنقذ منه». ولذلك، أعتقد أنه ما يزال ثمة أمل.
*كتبت في عمود نُشر في صحيفة لوموند: «يجب أن نفهم أن أي شيء يحررنا تقنياً ومادياً يمكن في الوقت نفسه أن يسلبنا إرادتنا». أنت تتحدث عن الأداة الأولى التي سرعان ما أصبحت سلاحاً ذا حدّين. أنت تتحدث عن مخاطر التكنولوجيا الحديثة وتعديها على الخصوصيات. هل ترى أن هذه مخاطر راهنة؟
**إنها أحد الأخطار في هذا المجتمع الراهن. دعنا نسميه المجتمع الشمولي الجديد، الذي يبدو أنه بدأ يستقرّ. ولكن يجب ألا ننسى أيضاً المحيط الحيوي الذي سيزيد كلّ هذا سوءاً إذا استمرت أزمة المناخ. يجب ألا ننسى أنّ ألوان التعصّب تَهِيج وتثور في كل مكان. وما يذهلني أكثر أننا الآن في وقت أصبحنا فيه، نحن جميع البشر، مجتمع مصير -والوباء دليل على ذلك، لقد مررنا جميعاً بالشيء نفسه، من نيوزيلندا إلى الصين وأوروبا. لقد عانينا من نفس المخاطر الجسدية والشخصية والاجتماعية والسياسية.
أنا لست ضد الأمة كمفهوم، بل على العكس. فكرتي عن الأرض الوطن هي أنها تشمل الأوطان والأمم كلها دون تفكيكها. وأعرف أن هذا الوعي غير موجود الآن. يمكن أن يأتي، ويتطور. ولكنه ما زال غائباً.
*كيف خبِرتَ، على المستوى الفكري، الحظر والحجْر المنزلي؟ هل دافع الحظر الصحة التي لها الأسبقية على الاقتصاد؟ أم بالعكس ترى أنهم في أوروبا فرضوا الحظر على حساب الحريات أحياناً؟
**التضاد في الأمر هو رؤية تناقض الأشياء. أستطيع أن أرى بوضوح الرغبةَ في سياسة صحيّة، ولكنها ربما لم تكن كافية للوضع القائم. الحظر شيءٌ أثار انعكاسات مفيدة عند بعضهم بقدر ما أحدث من مآسٍ أيضاً عند بعض آخر. والموضوع متناقضٌ للغاية. ولكنّ ما أعتقده هو أننا لم نفكر جيداً في تحدي هذا الفيروس. ما زلنا نخوض مغامرة غير معروفة النهاية، وأعتقد أنه لابد من إعادة تفكير سياسية وصحية عميقة.
بصيص أمل
*عمرك 100 عام. في هذا العمر، نبدأ عادة بالتفكير في النهاية. أكسل خان، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء 6 يونيو الماضي، كاد يؤرخ لنهاية حياته. هل أعددت أنت لها أيضاً؟
**هناك فرق كبير مع أكسل خان، الذي كان يعلم أنه مصاب بسرطان قاتل. حتى الآن، ليست عندي أيّ إصابة، ولا يمكن أن يكون عندي موقف أكسل خان نفسه. ما تزال لديّ، على الأقل من الناحية العقلية، قوى الحياة التي تمنحني الرغبات والمشاريع والملذات. أنا أعيش بطريقة أضيق بكثير ممّا كنت عليه في الماضي. ضعُـف سمعي. ولم تعد عيناي تقرآن الأشياء المكتوبة بخط صغير. وساقاي لم يعد بإمكانهما الركض.
*لقد قيل الكثير عن الأشياء المظلمة في الأحداث الحالية أو في الماضي. هل هناك بصيص أمل تراه في عيد ميلادك المئة؟
**أولاً، أعلم أنه لا يوجد خطأ غير قابل للإصلاح. لسوء الحظ، الديمقراطية ليست شيئاً ذا اتجاه واحدٍ، ولكن الشمولية أيضاً ليست أمراً لا رجوع عنه. عشنا أوقاتاً مظلمة مثل الاحتلال النازي، حيث لم يكن هناك أملٌ لسنوات، حتى وصلت معجزة الدفاع عن موسكو ودخول الولايات المتحدة الحرب، ليتغير اتجاه الأحداث. ولذا فإن ما هو غير محتمل قابِلٌ لأن يَحدُث في التاريخ، في أي لحظة. خذ على سبيل المثال البابا فرانسيس. إنه أوّل بابا منذ قرون يعود إلى مبادئ الإنجيل ويصبح مدركاً للمخاطر التي تهدد الأرض وتحديات الفقر والبؤس البشري. لم يكن متوقعاً أن يخلف هذا البابا بالذات بابا آخرَ كان منغلقاً جداً ورجعياً للغاية.