محمود إسماعيل بدر (الاتحاد)
لن نتحدث في هذه العجالة عن كواليس، وختام مهرجان كان السينمائي الدولي في نسخته التاريخية الـ74 التي انعقدت (6 -17 يوليو الجاري)، ولكننا سنتحدث بالفعل عن مفاجأة هذا الحدث، المخرجة وكاتبة السيناريو الفرنسية الشّابة جوليا دوكورنو (18 نوفمبر 1983) التي انتزعت سعفة المهرجان الذهبية عن فيلمها الصادم والغريب والعنيف والجدلي «تيتان»، لتصبح ثاني وأصغر امرأة تفوز بهذه الجائزة الرفيعة في واحد من أهم المهرجانات السينمائية الدولية، بعد المخرجة النيوزيلندية جين كامبليون، التي فازت بها عام 1993 عن فيلمها «البيانو». وقد شكّل منح دوكورنو هذه الجائزة الرفيعة رسالة بالغة الأهمية للصناعة السينمائية، التي تشهد الآن أكثر من أي وقت مضى إعادة نظر في ما يتعلق بمكانة المرأة، واحترام إبداعها.
دخول «الوحوش»!
ولعل أول ما يلفت اهتمامنا هو نظرة دوكورنو، للحظة إعلان فوزها، بخطاب يتسم بالأناقة والصراحة ونقد الذات في طريقة ترتيبها لكلماتها بشكل يجعلها مزدوجة المعنى وهي تشكر لجنة التحكيم: «نعرف مدى إدراكنا اليوم للحاجة الماسّة والعميقة إلى عالم أكثر مرونة وشفافية وشمولية، وأدعو إلى مزيد من التنّوع في تجاربنا السينمائية وفي حياتنا، شكراً للجنة التحكيم لسماحها للوحوش بالدخول»! مضيفة لحظة تسلمها الجائزة: «أعرف أن فيلمي ليس مثالياً، ولكنني أعتقد أنه لا يوجد فيلم مثالي في نظر الشخص الذي صنعه، ويمكنك حتى القول إن فيلمي وحشي، ولكنه يخرج من وحشيته طبيعة الإنسان حينما يكون عدوانياً، أفقدته العولمة خصائصه الإنسانية»، وفي جانب ثان قالت دوكورنو عبر تصريحات صحفية: «إن صناعة أفلام الرّعب ليست بالسهولة التي يتخيلها البعض، إنها عملية تحدٍّ تحمل في ثناياها جوانب إنسانية وفلسفية يصعب على الكثيرين تنفيذها ببراعة»، وأوضحت: «الرعب في أفلامي لا يوازي واحداً في المئة من الرعب الذي يصنعه العالم المتحضر بحروبه المدمرة»!
ويأتي كلام دوكورنو العقلاني والناقد في خضم الهجوم المضاد الذي واجهه فيلمها، الذي وصفه البعض بـ«القاسي والدموي والجارح»، ووصفت مجلة «سكرين ديلي» الفيلم بأنه «مزيج من الغضب والشراسة والعنف والسخافة المطلقة»، بينما قالت عنه هيئة الإذاعة البريطانية بأنه «الفيلم الأكثر إثارة للصدمة في العام الجاري»! وتساءل الناقد الفرنسي جالان ديميه في تحليله للفيلم: كيف يخرج كل هذا العنف المقيت من كل هذا الجمال الرومانسي الساحر الذي تتمتع به مخرجته؟ وبالنسبة لنا، الفيلم بمجمله تعبير سينمائي مختلف عن كل ما عرض من أفلام على مدار 12 يوماً من الغرق في عوالم الفن السابع، وفوزه في الواقع هو تسجيل الفوز للاختلاف، فقد أثبتت دوكورنو بفيلمها (108 دقائق)، وهو إنتاج فرنسي بلجيكي مشترك، أنّ المرأة أحياناً تكون أكثر قدرة من الرجل على إثارة الرعب والصرخات والضحكات المزعجة، وأنها الأكثر خيالاً وإبداعاً.
حلم سيريالي
ونرى أن خيالها لم يكن مريضاً، بل هو نابض بالحياة، يتشكل من مزيج مرعب من الكوميديا والعنف والسخرية من الراهن العالمي، تقدمه مع موسيقى صاخبة وإضاءة خافتة تجلب للمتفرج المزيد من الغموض والفزع لأجواء الفيلم الذي يدخلنا في حلم سيريالي. كما نجد ذلك أيضاً في فيلمها الآخر «رو»، وقد حصدت عنه كذلك جائزة «فيبرسي» ضمن أسبوع النقاد بفرنسا 2019، ما جعلها الاسم الأبرز في فئة هذه الأفلام السوداوية عالمياً، وذلك بعد سلسلة من الأفلام التي تلعب في هذه الدائرة الإشكالية، ومنها: نيء، جونيور، مانجي، خيال جامح، كيف نقتل الوقت، انتزعني من نفسي.