إبراهيم الملا

«صروف الدهر ما جتني على كيفي
وضاع الأمل يا (علي) في اللّي على كيفي
لوّل تهمّه حياتي وكيفته كيفي
واليوم عنّي تبدّل واعتنق كيفه
وأصحاب ها الوقت كل واحدٍ كيفه
رايه يدلّه على مطلب هوى كيفه
واللّي ذخرته أنا ما جا على كيفي»

يدرك الشاعر عبدالله بن عامر الفلاسي أهميّة «الموّال» في خلق وحدات بنائية مستقلة في الهيكل العام للقصيدة الشعبية، بحيث يؤدي امتزاج هذه الوحدات البنائية وتداخلها إلى خلق الفضاء الحسّي والعاطفي المشترك بينها، والمتناغم أيضاً بأبعاده المشهدية وإيقاعاته اللّحنية المتهادية على «بحر البسيط»، وفي القصيدة أعلاه يلجأ الشاعر ابن عامر الفلاسي للموّال الأكثر صعوبة مقارنة بالأنواع الأخرى وهو: «الموّال السباعي» والذي يسميه بعضهم «المسبّع»، خصوصاً في المنطقة الشرقية بالإمارات وسلطنة عمان باعتباره أحد فنون وأساليب شعر «الطرايق»، بينما يطلق عليه العراقيون «السبعاوي» وأحياناً «البغدادي» لأن أهالي بغداد هم من أوجدوه ونشروه، ويسمى في سوريا بالموال الشرقاوي.
يدلّ هذا الموّال على طبيعة حياة الفلاسي وانفتاحه على ثقافات عربية متنوعة بفنونها الشعرية وأنماطها السردية وأنساقها الشعبية المتوارثة، وذلك بحكم أسفاره ورحلاته إلى المدن التاريخية العريقة على سواحل الخليج، وإقامته لفترات ليست بالقصيرة في هذه المدن واتصاله بالفنانين والشعراء الشعبيين هناك، ما راكم في دواخله رصيداً مكتنزاً بالمعارف والخبرات والمديات المتنوعة للذائقة السمعية والموسيقية.
يتميّز الموّال السباعي بالقافية المتشابهة في الأشطر الثلاثة الأولى، أمّا الأشطر الثلاثة الباقية فتكون بقافية أخرى، بينما يحتفظ الشطر السابع بنفس قافية الشطر الأول في الأبيات الثلاثة الأولى، وتكون الخاتمة في الشطر الأخير هي الإشارة النهائية الدالّة على مراد الشاعر، وعلى فحوى ومغزى وما احتوته الأشطر السابقة كلها.
يبدأ الفلاسي الشطر الأول بالشكوى من صروف الدهر، والتي أتت رياحها معاكسة لمطلبه وهواه، مستخدماً كلمة «كيفي» كقافية ثابتة في الأشطر الثلاثة الأولى، ويتغيّر معناها ومدلولها حسب السياق أو القالب الذي يضعه الشاعر في كل شطر، شارحاً لنديمه «علي» في الشطر الثاني مباشرة سبب همّه، ومنبع ألمه، والمتمثّل في ضياع الأمل بالظفر بمحبوبه، بعد تغيّر أحوال هذا المحبوب، وتبدّل طباعه، فبات من الصعب عودة مياه الودّ إلى مجاريها، فالسبل انقطعت، والدروب انمحت، وصار الوعد سراباً، واللقاء بهتاناً، والاجتماع افتراقاً، ليقوم الفلاسي في الشطر الرابع بتوليف قافيته الجديدة «كيفه» المتماسّة لفظياً مع القوافي السابقة، والمهتمّة بتعميم حالة النأي والانقطاع، لأن عناصر الهجر والبعد والنكران صارت خصالاً غالبة على الناس: «وأصحاب ها الوقت كل واحدٍ كيفه/ رايه يدلّه على مطلب هوى كيفه» منتقلاً بخطابه الاستنكاري من الحالة الفردية إلى الحالة العامّة، ليُبدي سخطه من أنانية أصحابه، بعد معاناته من أنانية محبوبه، وبالتالي صار همّه موزّعاً ومتفرقاً، بعد أن كان مكثّفاً وملتمّاً، وهو همٌّ دونه الكثير من المواجع والصدمات وتكالب مشاعر الخذلان والأسى على ما أصاب الخلق من حوله، لذلك تأتي «القفلة» أو خاتمة الموّال لتلخّص نتيجة الثقة الزائدة بالآخرين، وأن كل ما تمّ ادّخاره من مشاعر جيّاشة، وظنون حَسَنة، ونوايا طيبة، باتت الآن في مهبّ الريح، فلا أمل يرتجى منها، ولا قيمة معنوية وماديّة يُعتدّ بها، لذلك يقول: «واللّي ذخرته أنا ما جا على كيفي» إنها إذن الصدمة الهائلة المنبثقة من الخسران المبين.

يراعي الشاعر عبدالله بن عامر الفلاسي في موّاله هذا وفي مواويله الأخرى الطباق والجناس والزخرفة اللغوية والمقابلة اللفظية والصور البلاغية القوية كالتورية والكناية والتشبيه، ليصنع مادة شعرية مرنة ومتحركة في المجالين التخيّلي والتجسيدي، مقترباً بشكل واضح في مواويله من فن «الزهيريات»، وهو فن نشأ بجنوب العراق، وانتقل بعدها إلى بلدان ومناطق الخليج المجاورة، بحيث تكون اللهجة الخاصة بكل منطقة وطبيعة الفنون الأدائية والطقوس الفلكلورية، هي المُحدّدة للفوارق الشكلية بينها
والمعروف أن فن «المسبّع» في المواويل والزهيريات كان له الحضور الأكثر كثافة وتوهجاً مقارنة بالأنواع والأساليب الأخرى، ويعتمد «المسبّع» على هيكلية «3- 3 - 1» وينقسم لنوعين هما المسبّع المفتوح، والمسبّع المحبوك، حسب القوافي المختارة من قبل الشاعر، و«المسبّع المحبوك» الذي لجأ له الشاعر عبدالله بن عامر الفلاسي في القصيدة أعلاه هو النوع الأصعب بسبب حاجته لمخيلة خصبة وقادرة على انتقاء القافية المناسبة، والربط بين المعاني والصور في أضيق نطاق ممكن من خلال سبك محكم يحمل معه دلالات عميقة، تعبّر بصدق عن مطلب الشاعر ومقصده من نظم الموّال.

رحلات للبحث عن لقمة العيش
ولد الشاعر عبدالله بن عامر بن سليّم الفلاسي في العام 1920م بقرية «أم الماء» على الحدود الإماراتية السعودية، ويرد في دراسة للباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي عن السيرة الحياتية والإبداعية للفلاسي أنه تعلّم القرآن الكريم وتلقّى مبادئ القراءة والكتابة من شيخ عماني يدعى «الملّا خميس»، فأتم ختم القرآن وكان عمره نحو عشر سنوات، وأن خطّه كان مقروءاً وجميلاً، وكان في سن الشباب يكتب قصائده ويحفظها في كرّاساته الشخصية.
ويذكر المزروعي أن شاعرنا كان يتنقّل مع أهله في الأراضي البرّية بحثاً عن لقمة العيش، وكانوا يجولون شتاء للعثور على المراعي لإبلهم وحلالهم، وعندما بلغ سن الشباب عمل في البحر وكان غوّاصاً ماهراً، حتى أصبح «نوخذة» لعدد من السفن التجارية لبعض ملّاك السفن في دول الخليج، قبل أن يمتلك سفينة تجارية خاصّة به، فبات يتنقّل بين سواحل الخليج العربي بضفّتيه الشرقية والغربية، وشماله في الكويت والبصرة، وإلى مسقط وبندر عباس جنوباً، فاشتهر بذلك شهرة واسعة على مستوى إمارات الخليج ودوله.
وعندما واجه الفلاسي صعوبات لاحقة في عمله البحري التجاري، اضطرّ للانضمام في بداية الخمسينيات الماضية إلى شركة «أرامكو» بالمنطقة الشرقية من السعودية، وبعد تركه العمل في أرامكو تفرّغ لحياة البادية وأطلق شغفه بممارسة رياضة الصيد بالصقور، فتعلّق بالمقانيص واشتهر بها كشهرته في البحر.
كما يرد في السيرة الذاتية للفلاسي أنه ذهب في بداية السبعينيات إلى جمهورية مصر العربية، وطاب له المقام هناك، فاستقر في القاهرة طوال السبعينيات والثمانينيات الفائتة، وأن تعلّق شاعرنا بفن المواويل كان بسبب أسفاره البحرية ومخالطته لشعراء المواويل والزهيريات في العراق والبحرين والكويت والسعودية، أما قريحته الشعرية المرتبطة بالقصيدة النبطية فتفتّحت وأينعت أثناء رحلات القنص والصيد بالطيور واحتكاكه بشعراء البادية.
وحول أساليبه وأغراضه الشعرية، يوضح المزروعي أن عبدالله بن عامر الفلاسي طرق معظم أبواب الشعر الشعبي، وتخصّص في الشعر الغزلي ونبغ فيه كثيراً، فله الكثير من القصائد الغزلية الخفيفة المغنّاة، مثل قصيدة له بعنوان «يوم الهوى ولْمٍ لي»، يقول فيها:

«يوم الهوى ولْمٍ لي/ وشراعي ما غَمَرْ
تارس وأسير معلّي/ واصدم موج البحر
وانصى حِسين الدلِّ/ ما هاب من الخطر
اللّي حديثه يسلّي/ مثل نغم الوتر
من رمسته ما ملّي/ لو يرمس لي دهر»

ويضيف المزروعي أنه بالرغم من طغيان الشعر الغزلي على نتاج الفلاسي، إلّا أن له قصائد كثيرة في النصيحة والمدح والشكاوى، حيث اشتهرت ردودهو شكاويه مع شعراء كبار ومعروفين في زمنه، أمثال: أحمد بن علي الكندي، وسالم الجمري، ومحمد بن صنقور، وفتاة العرب (عوشة بنت خليفة السويدي).

ديوان الفلاسي
صدر للشاعر عبدالله بن عامر الفلاسي ديوان بعنوان «ديوان الفلاسي» جمع وتحقيق الدكتور راشد أحمد المزروعي، وضم الديوان جلّ قصائد الشاعر الناطقة بلسان الوجد، والمعبّرة عن الهواجس والأحلام والتطلعات في المحطات والمواقف التي خبرها شاعرنا وتفاعل معها ورصد تأثيرها عليه وعلى المجتمعات والبيئات التي عاشها وانشغل بها وفيها، وعمل بالتالي على توثيقها شعرياً، كيف لا وقد شكّلت هذه الأشعار قاموس حياته، وخريطة إبداعه، ومخطوطة عمره، قبل أن يفارق الدنيا عام 2008م تاركاً خلفه إرثاً جمالياً حافلاً بالمواويل العذبة والأشعار النبطية المرتبطة بملامح عصره، وبتجاربه وأسفاره وخبراته المتراكمة.

أغانٍ مشهورة
تناول العديد من الفنانين قصائد الفلاسي فتحوّلت من خلال ألحانهم وإيقاعاتهم إلى أغانٍ مشهورة في زمنهم، ومن هؤلاء الفنانين، المطربة العمانية موزة خميس، والفنان الإماراتي القدير جابر جاسم الذي أدّى قصيدة غزلية للفلاسي تقول كلماتها: 
«أنا لي صاحبٍ غالي/ وحبّه ناحلٍ حالي
ودومٍ بالزعل يجفي/ مكدّر في الهوى بالي
معذّبني ولا يدري/ بنار الشوق في صدري
وكمَّل يا (علي) صبري/ وانا بشكي لكم حالي»