إبراهيم الملا

«يا طوير الشام وش بِك ما تنام/ دايمٍ تلعي على غصنٍ رطيب
بك طرب يا طير لو بك عوق سام/ وإلّا بك غرٍّ دعى قلبك سليب
قال بي حبٍّ تملّكني تمام/ نابي الردفين بو جنبٍ لبيب
مبتلي وأنوح من زود الغرام/ وآ شقايه كفّ عذلك لا تجيب
افتهم يا طير مثلي ما يلام/ العشق جرحه شنيعٍ ما يطيب
لي بلي بالحبّ يبرح ما ينام/ ساهر الطرفين والناظر حريب»

يلجأ الشاعر الكبير عبدالله بن عمير الشامسي في القصيدة أعلاه إلى «منطق الطير» وظلال الرمز، كي يشرع في خلق حوار افتراضي مع «طوير الشام» القادم من مكان بعيد، حسب ما يوحي به اسم ووصف الطائر، وهو اختيار ذكي من قبل الشاعر لدمج حالتين يشتدّ فيهما النَصّب والإعياء واللوعة والحنين، ما يخلق انطباعاً مكثفاً حول الألم المضاعف في دواخل هذا الطائر، وفي مظهره الخارجي أيضاً
يستفيد شاعرنا أيضاً من عنصري: «المقابلة والمناظرة» ليضع نفسه مكان «طوير الشام»، وكي يفتح منفذاً للتعبير الحرّ بين كائنين تفصل بينهما «الطبيعة المتمايزة للتكوين»، ولكن ما يجمعهما يلغي هذا التمايز، بل يذيبه في كيان واحد تتداخل فيه عناصر شتى، مثل: الوجد، وقلّة الحيلةٍ، وبعد المسافةٍ، وتعب الجسد، ففي مطلع القصيدة نرى إشارة واضحة لهذه الحيرة الوجودية المشتركة «يا طوير الشام وش بك ما تنام، .. دايمٍ تلعي»، وفي البيت الثاني يقول الشاعر: «بك طرب لو بك عوق سام، .. وإلاّ بك غرٍّ دعى قلبك سليب»، ثم يرتقي الحوار الافتراضي إلى ما يشبه المناجاة والتعاطف والتمازج الشعوري، عندما يبدأ بن عمير الشامسي في صنع رابط نفسيّ بينه وبين نديمه في الهوى، حتى لو كانت اللغة عصيّة على الترجمة، ولكن «اللبيب بالإشارة يفهمُ»، وما أكثر الإشارات التي استخدمها شاعرنا في قصيدته، والتي كان لها وقع جماليّ آسر لدى المتلقي، وهي إشارات تُظهر أكثر مما تُبطن، وتُفصح أكثر مما تّظمر، «افتهم يا طير مثلي ما يلام.. لي بلي بالحبّ يبرح ما ينام» لنرى في الأبيات التالية الانتقال السلس من الأسئلة الاستنكارية، والعبارات المبهمة، إلى المكاشفة الواضحة، والجلاء المطلق، لأن كلّاً من الشاعر والطائر أصبحا في مقام لا يحتمل البهتان، أو الخضوع للتفسيرات والتأويلات المربكة، وما يؤكد هذا المنحى الأبيات اللاحقة في القصيدة، والتي يصبح فيها الجزم طاغياً على الظن، ويكون فيها الدليل غالباً على الشبهة، حيث يقول ابن عمير الشامسي في توصيفه البارع والدقيق لأسقام الحبّ وويلات الهوى:

«في الحشا يأرّث علامات السقام/ وأن بطا بك لازم حتما تغيب
العشق جبّار ما يعطي علام/ يملك العشّاق بالملك الغصيب
الهوى له ناس بسدوده كتام/ ما هذوا به في المرامس دون ريب
الهوى له في الحِشا سرٍّ حكام/ عن حسود الواش والوسق الهذيب
مخفيٍّ وسط الضماير لا علام/ ما يبيح والهوى سرّه غريب»

تحليلنا قصيدة ابن عمير الشامسي عموماً إلى الطابع الرمزي المشوّق لقصص الحيوان في الأدب العربي، فالحكايات والحوارات المُصاغة بلسان الحيوان تمنح الشكل الأدبي بقوالبه المتنوعة منظوراً تعبيرياً مختلفاً في قراءة الواقع، سواء أكان مجال التعبير شعراً أم نثراً أم سرداً، ضمن أنساق مشوقة يتنفّس فيها الطرح أو المقصد بحريّة، ومن دون عوائق يفرضها التعبير المباشر أو الوعظ المٌشدّد، ذلك أن الرمزية هي مفتاح الخيال، وهي التي تمنح الأدب روحه المتأنّقة، وجمالياته النابعة من السؤال المُخاتل والمُراوغ، لا من الإجابة الدالّة والصارمة.
ويشير الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي، في دراسة استقصائية له حول سيرة الشاعر ابن عمير الشامسي، والذي أطلق عليه لقب «شاعر الحنين»، وأن أهله كانوا من كبار رجالات منطقة «حماسا» في مجالات العلم والدين والقضاء، وكان والده إماماً ومعلماً للقرآن، وكانت حينها منطقة «البريمي» حاضرة المناطق والواحات، تزخر بأشجارها وأفلاجها وشرائعها، ويعجّ سوقها بمختلف البضائع، مثل: التمور والقمح والقهوة والأرز، وبمختلف احتياجات الناس في ذلك الزمن البعيد، ويضيف المزروعي أن شاعرنا ترعرع في ذلك المجتمع الحيويّ والضاجّ بالحركة والحياة والمظاهر الاجتماعية المتنوعة، فتعلّم على يد والده مبادئ القراءة والكتابة، ولم يكد يصل عمر بن عمير 18 عاماً، حتى بدأت قريحته الشعرية تتفتّح، وبدأ يقول الشعر الخفيف ويبوح به أمام أهله وأصدقائه، كما كان يشارك بالرزيف والشلّات في الأفراح والمناسبات صحبة الشعراء الآخرين في منطقته.

  • راشد المزروعي

ردود مساجلات وكفاح ضد الاستعمار
اقترن الشاعر بزوجته الأولى من قبيلة «بني كتب» في المنطقة نقسها، ثم ما لبث في منتصف العشرينيات الماضية أن سافر لملازمة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم الشارقة في الفترة بين عامي 1924م و1951م، وهناك عاش في الشارقة واختلط مع أهلها وصار واحداً منهم، حيث اشتهر بشعره الجزيل وقصائده التي قالها في شيوخ القواسم، وبعد أن طاب به المقام في الشارقة تزوّج من أسرة «الشويهيين»، ومن الحوادث الشهيرة التي ارتبطت بالشاعر عبدالله بن عمير الشامسي أنه كان يخرج ليلاً مع عدد من المرافقين على الخيل، ليهدموا بناء المحطة الجوية التي كان يقيمها الإنجليز في قاعدتهم الجوية في مدينة الشارقة، حيث كان الكثير من الأهالي يعارضون ذلك، ويعتبرونه تعزيزاً للاستعمار الأجنبي والاستيلاء على أرض الوطن، ومن المعروف أن إنشاء هذه المحطة كان في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
ويعرج الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في دراسته إلى قصائد الردود والمساجلات المميزة التي جمعت بين شاعرنا وبين أيقونة الشعر النسائي في الإمارات وهي الشاعرة الكبيرة عوشة بنت خليفة السويدي «فتاة العرب»، والتي سمعت بالشاعر في فترة شهرته وعلو كعبه بين الشعراء الآخرين في منطقته، وذلك أثناء زيارتها لمنطقة «صعرا» للاصطياف فيها، وقد تطورت قيمة ونوعية القصائد المتبادلة بينهما مع مرور الزمن وأصبحت تشكّل خريطة للحنين إلى أماكن الطفولة وإلى مناطق المقيظ والاجتماع مع الأهل والأصحاب، خصوصاً بعد سفر الشاعرة عوشة خارج الوطن لفترة من الزمن، وسفر الشاعر ابن عمير إلى الدمام بالسعودية وإقامته الطويلة فيها، ويقول المزروعي: «تدلّ هذه الشكاوى على المنزلة الكبيرة التي كان يحظى بها الشاعر عبدالله بن عمير الشامسي لدى الشاعرة عوشة، كما إن هناك قصيدة في ديوان عوشة من جمع وتوثيق الدكتورة رفيعة غباش، معنونة «للأخ عبدالله»، وأظن أنها قد أرسلتها للشاعر ابن عمير عندما كان في الدمّام بداية الستينيات الماضية».
حيث تقول عوشة في قصيدتها تلك:
أنا «حاير» بدعوايه/ ومن له برفع شكايه
ألا يهْل الهوى قولوا/ نظركم فيه لكفايه»

وعن أغراضه الشعرية وخصائصه الأسلوبية، يرى المزروعي أن ابن عمير لم يترك مجالاً من مجالات الشعر الشعبي إلاّ وطرقه، فقد قال في المدح، والرثاء، أمّا الغزل فقد برع فيه كثيراً، وقال قصائد غزلية جميلة بقوافٍ ومفردات مميزة وحديثة، مما جعل تقليدها منتشراً عند الشعراء الذين أتوا من بعده في الإمارات خاصة، وأصبح استعمالها يضفي جمالاً على أشعارهم، وله في الحكمة والنصائح قصائد عديدة، أما في الشكاوى فقد تميّزت شكاواه بالقوة والرصانة خاصة مع الشاعرة فتاة العرب، وكذلك مع ابن أخيه الشاعر المعروف سعيد بن سالم بن عمير الشامسي، كذلك له مجاريات مع الشاعر سالم الكاس، والشاعر خليفة بن مترف الجابري، وغيرهما. وفي مجال الفنون الغنائية، له رزفات كثيرة وتغاريد جميلة وقوية ما زال بعضها منتشراً في مناطق الإمارات المختلفة.

«توحات الدهر»
صدر للشاعر عبدالله بن عمير الشامسي ديوان شعر بعنوان: «توحات الدهر»، جمعه وحقّقه الباحث الدكتور راشد المزروعي، واستقى عنوانه من فضاءات الحزن والأسى والفراق، خصوصاً في النصف الثاني من حياة الشاعر ابن عمير بعد مغادرته القسرية لمرابع الصبا، وانفصاله الطويل عن الأقرباء والخلّان.

قصائد مميزة
توفي الشاعر عبدالله بن عمير الشامسي في مدينة الدمّام بالسعودية عام 1980م ودفن هناك، بعد أن أتحف سجلات الشعر النبطي بالإمارات بالعديد من القصائد المميزة، والفائضة شوقاً وحنيناً لمناطق ومدن الدولة، بدءاً من «حماسا» ومناطق العين والبريمي، وصولاً لمناطق الشارقة مثل «الشويهين» و«الحيرة»، وليس انتهاء بالواحات الظليلة التي ترعرع في كنفها واستقى من طبيعتها الخلّابة، مناخاته الشعرية الأثيرة وأسلوبه التعبيري المتفرّد والغنيّ بالصور والمشاهد الفلكلورية الأصيلة.

قرية «حماسا»
وُلد الشاعر عبدالله بن عمير بن سالم الشامسي عام 1895م في قرية «حماسا» المحاذية لمناطق «هيلي» و«العين» و«مويجعي» و«صعراء» التي كانت قديماً قبلة للمصطافين من شتى مناطق الإمارات، خصوصاً شريعة «صعراء» التي كانت من أشهر مناطق الجذب في تلك الأيام، لما كانت تتمتع به من جوّ لطيف، ومياه عذبة، ونخيل وأشجار فواكه.