إبراهيم الملا

«يا رِجْل يا اللّي على المِشراف مَجبورة
والقاع عيّت تَمشي في مواطيها
وِشْ حيلتي في نظيرٍ هلّت اعبوره
والعين تشكي الوِزا من عقب غاليها
يا ليت ربّي كِفاني الحبّ وشروره
درب المودّه على النقصان تاليها
ذي حيلتي عُقُبْ ما هيب مسرورة
والله رقيبٍ على روحي وما فيها»

تختال الصور الشعرية في قصائد الشاعر الكبير صالح بن عزيز المنصوري، فهي صور تتعلّى فوق البديهي والعادي، وتتسامى في فضاء رحب ومكتنز بعجيب القول وغريب الكلام، وكأنها شهبٌ ونيازك تتقاطع وتتعانق كي تضيء عتمة الفكر، وتبرق في ليل المعنى.
في القصيدة أعلاه، يُهندس المنصوري مجال الرؤية على مقاس أمكنة متخيّلة، وتضاريس شعرية تتفاوت بين علوّ وانخفاض، وارتفاع وانبساط، مستخدماً مفردتي «المِشراف والقاع» كي يصف حاله وحال غيره عند عقد المقارنات في أزمات الغرام ولواعج الهوى، مستفيضاً في شرح تحوّلات العاشق أثناء الوصل وبعد الهجر، وعند الإقبال ووقت الصدّ، ويؤكد في البيت الأول من القصيدة على صلابة عوده وقوة قلبه عندما تهبّ الرياح المعاكسة لمطلب المحبّ، مستعيناً بتشبيه بليغ يبعده عن التفاسير المغلوطة والتأويلات الضيّقة، ذاكراً أن أقدامه اعتادت الوقوف على المشارف العالية والتلال الشاهقة، فلا ذلّة ولا خنوع هنا، مقارنة بغيره من العشاق المتنازلين عن قوّتهم الذاتية وصلابتهم الداخلية عند أول اختبار صعب في امتحان الحبّ ومواجهاته، ويصف شاعرنا هذا النوع من العشّاق بالمستسلمين لواقعهم، وأن أقدامهم اعتادت المضيّ في «السيوح» المنخفضة، الممتلئة بالأوحال والعثرات والمواطئ المؤذية.

  • صالح بن عزيز المنصوري

مُذكّراً المتلقي في البيت الثاني من القصيدة، أنه عاشق يحتفظ بآلامه لنفسه، ولا يعرضها للغير، رغم كل العذابات المتكالبة عليه، وأن دموعه المنهمرة على وجنتيه هي الترجمان الصادق لأثر هذه العذابات التي يعانيها وحيداً وبعيداً عن الخلق وعن انكشاف الناس عليه «هلّت اعبوره.. والعين تشكي الوزا من عقب غاليها»، و«الوزا» في اللهجة المحلية تعني التعب والشقاء، لذا فإن ذكر البكاء فيه إيحاء واضح بجريان الوقت، وتحويل صلابة الألم المتحجّر في الفؤاد، إلى سيولة في العين، كي يتخفّف الوجع، ويقلّ منسوب الأذى.
يقول المنصوري في البيت الثالث من القصيدة: «يا ليت ربّي كفاني الحب وشروره/ درب المودّه على النقصان تاليها»، مؤكداً على براعته في نسج التراكيب الشعرية المستفيدة من المفارقات التعبيرية، واصلاً الأضداد مع بعضها، وكأنها في وصال دائم، والتحام شديد، رابطاً بين النفي والإثبات في سياق واحد، وفي مسار متداخل «الحب وشروره»، «درب المودة على النقصان تاليها»، وتتجلى القدرة الشعرية اللافتة للمنصوري هنا في المزج بين النقائص والكمالات باعتبارهما جسداً واحداً، هو جسد الإنسان المبتلى بالعشق، والذي تزدحم فيه الرغائب والأهواء، والأصوات والأصداء، والأفراح والأتراح، والواضح والغامض، ضمن ثنائيات تعطي الحياة قيمتها، وتكسر الجمود والملل في مسيرة الحب الطويلة، والمليئة بالمفاجآت والمباهج والآلام والانكسارات.
أما في البيت الرابع من القصيدة، فيقول شاعرنا: إن القوة الظاهرية البادية عليه، هي نتاج تمنّع وإغفال للحقائق الجاثمة على ذاته الخافية ودواخله المتوارية عن الآخرين، الأمر الذي دعاه في النهاية إلى التضرّع للسماء، حتى تنجلي عنه الغمّة، وتعود المياه إلى مجاريها، وينكشف الغطاء السميك للهمّ والقلق وسوء الحال وضعف المآل، قائلاً: «ذي حالتي عقب ما هي مسرورة/ والله رقيب على روحي وما فيه».
ويكمل الشاعر صالح المنصوري قصيدته البديعة هذه بأبيات غاية في الإدهاش وابتكار التعابير الموحية، والأوصاف الدقيقة، ويقول: 
«يا طفل ريمٍ سكن في البرّ وقفوره/ وان شاف زيلةٍ ما هو يغاشيها
وان راد ربّي بعض ليّام بازوره/ والديرة اللي سكنها لازم أجيها
بازور خلٍّ سببه الروح مخطوره/ شوفه يلّي هو على الأدراك يشفيها»

أتحف المكتبة العربية بشعره الرصين
ولد الشاعر صالح بن علي بن عزيز المنصوري بمنطقة الظفرة بأبوظبي، في العام 1939م، وكما يرد في كتاب (الظفرة شعر وشعراء) للباحث الدكتور حمّاد الخاطري، فإن الشاعر صالح المنصوري ينحدر من فخذ المطاوعة آل شظيب من البو منذر من قبيلة المناصير، مضيفاً أنه شاعر أتحف المكتبة العربية بشعره الرصين ليمنح المتلقي صوراً جميلة مستوحاة من حياة البادية ونقائها، وهي صور تتجسّد أيضاً في عذب حديثه ورواياته، وكان المنصوري أحد أعضاء مجلس شعراء البادية بإمارة أبوظبي، وكانت له مشاركات كثيرة في المناسبات الوطنية والمهرجانات الشعرية في الإمارات ودول الخليج، وله مساجلات عديدة مع كبار الشعراء محلياً وخارجياً، وفي مقدمتهم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ومحمد بن سعيد الرقراقي المزروعي، وحميد بن خرباش المنصوري، ومبارك بن خلفان، ومحمد بن فلوة، وغيرهم، كما تميّز بقصائد رائعة تغنّت بقيادة ومآثر وحكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان - طيّب الله ثراه - وله ديوان مطبوع بعنوان: «فارس الشعر» صادر عن نادي تراث الإمارات عام 2001م.

دراسة استقصائية وافية
الشاعر والباحث الجزائري الراحل «عياش يحياوي»، يذكر في دراسة استقصائية وافية عن حياة وسيرة الشاعر صالح بن عزيز المنصوري، أن أول أسفار الشاعر كانت خارج مضارب أهله وعمره 12 سنة إلى أبوظبي برفقة والده، وأنه كان في حلّه وترحاله يجالس كبار القوم، حيث امتلأ قلبه بمشاعر الحب وذاكرته بعيون الشعر النبطي، وراح في خلواته يردد ما حفظ، مغرماً بسلاسة اللغة وإيقاع الأوزان وجمال الصور البيانية، إلا أنه لم يجرؤ على نظم بيت شعري واحد، وما إن بلغ 16 عاماً راح يجرب نظم ما يعتلج به صدره من عواطف ومعانٍ وأفكار شعراً لا يزيد على البيت والبيتين والثلاثة أبيات، لكنه كان يقارن بين ما يحفظه من شعر وما ينظمه هو فيشعر بالفارق الكبير، ويزيده ذاك الشعور كتماناً لسره الكبير، السر الذي بدأ يتشكل في أعماقه، ويحدث به نفسه: إنه شاعر في بداية الطريق.
وذات ضحى وهو يدخل ربيعه الثامن عشر وجد نفسه يسوق إبلاً مع الشاعر الكبير غصاب، وكان عمر غصّاب حينذاك أربعين عاماً، فأنشد الفتى بيتين له من لحن المنكوس على مسمع من غصاب بعيداً عن الناس، فرد عليه غصاب، قائلاً: «أشهد لك أنك شاعر، يوم كان عمري عشرين ما كنت أقول مثل هذا».
ويضيف الباحث عيّاش يحياوي: «تحدث الشاعر غصاب إلى من قابلهم من أهل العشيرة عن ميلاد شاعر فهللوا للخبر، وطاروا به إلى والد الشاعر لتهنئته، أما الوالد فقد عاش لحظة اختبار ابنه الشاعر مبتهجاً، لأنه كان هو نفسه شاعراً، ومن أقدم ما نظم الشاعر الفتى وعمره 18 سنة:
«على دارهم بالكوف يا ليت ما مرّيت
ورسم عفاه النود يذري به السافي
وأنا لي وطيت الدار من علّتي ونّيت
صفقت الكفوف وعلّتي بين لنيافي
ونهار المفارق ما نفع قولتي يا ليت
حصل ما كفاني جعل يكفيبه الكافي
وعلى طورهم شرّفت وبالجرمني مديت
جلّيته وفرّيت المحاحيل ما شافي»
وكانت هذه من أوائل قصائده في الغزل، قالها في بنت بدوية، كان أهلها ينزلون قريباً من أهله.
ويروي شاعرنا أنه جايل شعراء كباراً من أبناء الظفرة، وأنه بعدما حفظ أسماء الديار والقبائل في طفولته سجلت ذاكرته أسماء شعراء استهوته مضامين قصائدهم، وبالأخص منهم من برع في الغزل وأوصاف البادية وتقاليدها، ومنهم: سعيد بن عتيج الهاملي، ومحمد بن حاضر بن خزام المنصوري غصّاب، وحميد بن خرباش المنصوري، وسعيد الرقراقي المزروعي، وغيرهم. 
ويضيف يحياوي في دراسته أن شاعرنا صالح المنصوري حين بلغ 22 سنة من عمره انضم إلى الجيش البريطاني في محطة الشارقة مدة خمس سنوات، ومع ظهور شركات النفط في الظفرة التحق بها عاملاً، قاد سيارة جيب في السنوات الأولى، ثم عمل في «الرقوق» بمناطق البترول في الظفرة، وسمح له هذا العمل بالحصول على دخل مقبول، وجعله قريباً من أهله الذين كان يزورهم في مضاربهم في البرَّ كلما سنحت الظروف.

واستمر على هذا الديدن إلى أن حكم المغفور له الشيخ زايد إمارة أبوظبي سنة 1966م، فذهب الشاعر مع غيره من الشعراء وأبناء القبائل للتهنئة، فطلب منه الشيخ زايد المكوث عنده ليصاحبه في رحلات القنص بالظفرة والربع الخالي قريباً من حدود اليمن وسلطنة عمان ثم في باكستان، ويتنقل معه حيث سار في مهامه داخل الإمارة إلى غاية سنة 1977م حين مرض والده فاستأذن ليكون قريباً منه، فقال له الشيخ زايد: «والدك أولى منا ومن غيرنا، خليك عند والدك، وإذا احتجنا إليك سنطلبك».

حفظ القصائد
أشار الشاعر والباحث الجزائري الراحل «عياش يحياوي» في دراسته عن حياة وسيرة الشاعر صالح بن عزيز المنصور إلى أن المنصوري وخوفاً على شعره من الضياع شرع منذ سنة 1982 في كتابة كل قصيدة ينظمها، وحفظ ما تيسر من القرآن الكريم، وتعلم القراءة على يد عمه المرحوم صالح بن عزيز الذي تسمّى باسمه، أما الكتابة فتعلمها أيام عمله في محطة الإنجليز في الشارقة وأيام رفقته للشيخ زايد - طيّب الله ثراه.