إبراهيم الملا
يا «سيف» سارت «عيده»/ وقت الضحى مِ الّدار
في لنجات يديده/ لي تقطع الابحار
خلّت «سلامه» وحيده/ تتويّع بالعِبار
الإنسان يلزم سيده/ لي له معه مقدار
ما يفرّح الحسّيده/ لي ينقلون الثّار
يوثّق الشاعر منصور بن غانم بو زاهرة، في القصيدة أعلاه لمشهد دراميّ تتشكّل فيه ملامح الوجع وقسوة الوداعات، شاكياً همّه لصديقه: «سيف بن سعيد بن ثالث» عندما غادرت زوجته «عيده» إلى أقاربها في سفينة، تاركة ابنته «سلامه» معه في دبي، وتبرز القيمة العاطفية الحارّة في القصيدة، من خلال الوصف الدقيق لتبعات الرحيل المتشابكة هنا مع ثلاثية: الحال والزمان والمكان (وقت الضحى)/ (خلّت سلامه وحيده)/ (الإنسان يلزم سيده)، وهي أوصاف يمتزج فيها الأسى مع العتب، فشاعرنا لا يرغب في الفراق، ولكنه مجبر عليه، ولا بضاعة لديه الآن سوى الحنين المقترن بالذكرى والفقد، حتى وإن جاء هذا الشعور المضاعف بالخسارة في اللحظات الأولى للرحيل، فهو شعور متكالب وهائج تتصادم فيه الأزمنة والأوقات، خصوصاً عندما يستحضر شاعرنا صورة السفن الجديدة التي تقطع البحار، وكأنها تقطع أوصال قلبه، وتربك هدأته وطمأنينته المعتادة عندما كانت زوجته معه وطفلته هانئة وسعيدة في حضنها، (في لنجات يديده/ لي تقطع الابحار)، ولكن الوضع تغيّر الآن وانقلب رأساً على عقب، فالابنة باتت تشتكي من الوحدة، وبكاؤها المتواصل إنما يترجم ردّة فعلها تجاه الوحشة والفراغ العاطفيّ (خلّت سلامه وحيده/ تتويّع بالعِبار) وإيراد الشاعر لكلمة «تتويّع» أي «تتوجّع» فيه من المضاهاة للواقع الشيء الكثير، وفيه توصيف بالغ الدقّة لحال ابنته الصغيرة التي لا تملك غير الدموع للتعبير عن فقد أمها، لقد تحول الشاعر هنا إلى الناطق بأوجاع وتأوهات ابنته، وفي الوقت نفسه يتحدث عن آلامه الشخصية، فيما يشبه التصريح المزدوج لشخصين يعيشان ذات الجرح الوجداني النازف في الروح والجسد.
في البيت الأخير من القصيدة، يورد الشاعر عبارة أقرب للنصح، وكأنّه يعزّي نفسه، ويسلّي خاطره، ليلقي باللوم على الحسّاد المروّجين للإشاعات والأقاويل، وكأنهم كانوا السبب الرئيسي لمغادرة زوجته، بحثاً عن حقيقة ما يشاع حول أهلها القاطنين في مكان بعيد، لتتأكد من الأمر، وتقطع الشكّ باليقين: (ما يفرّح الحسّيده/ لي ينقلون الثار) وقد يكون الأصح هو (لي ينقلون أخبار) لأن كلمة أتت غريبة في هذا السياق، وقد يكون السبب في إيراد كلمة «ثار»، هو إثارة الحسّاد للقلاقل وإشعالهم لحرائق الفتنة بين الناس، وداخل الأسر الآمنة والعائلات المستقرّة.
ولد الشاعر منصور بن غانم بن قاشوط المزروعي، الملقّب بـ «بو زاهرة» في عام 1898م في منطقة «مزيرعة» وينتمي لقبيلة المزاريع الكريمة، وهي فرع من حلف بني ياس، ويتبع أسرة «بن قاشوط» الكريمة من «آل شكر» الذين كانوا يقطنون «الظفرة» ويقيمون في محاضر«ليوا».
ويرد في سيرة الشاعر منصور بو زاهرة والتي ذكرها الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في دراسة له حول حياة الشاعر وطبيعة قصائده أن بو زاهرة عاش بداية في «ليوا»، ثم استقر به المقام في شبابه في جزيرة أبوظبي، ونظراً لأن المهنة الرئيسية السائدة في تلك الفترة هي مهنة الغوص، فقد انضم شاعرنا إلى سفن التاجر الشهير أحمد بن خلف العتيبة، وعمل في إحدى السفن غيصاً، وما لبث أن أسندت إليه مسؤولية الإشراف على إحداها ليصبح «نوخذا».
وظل في عمله يكدّ الغوص ويصرف على عائلته المكوّنة من زوجته وخدمه، وتشاء الأقدار أن يحصل الفراق بينه وبين زوجته الأولى «حمدة بنت حفيظ المزروعي» التي ولدت له ابناً وبنتاً توفي كلاهما في الصغر، ليتزوج في عام 1939م من امرأة تنتمي لقبيلة أخواله، وتسمى «عيده بنت أحمد بن إبراهيم المرّي» التي كانت على قدر كبير من الجمال، ورزق منها بابنته الوحيدة «سلامه»، وقال في زوجته قصيدة اشتهرت بين الأهالي وصار يضرب بها المثل في حالات المحسوبية والواسطة، يقول أبو زاهرة في هذه القصيدة:
«اللي تبا له (عيده)/ بيّي خشره عَدِلْ
والّي ما تبا له (عيده)/ يا ويله من رجل»
ويقال إن «عيده» كانت تساعد العوائل في اختيار عرائس لأبنائهم، وكان زوجها الشاعر منصور يحيك الطرفة حول هذه المسألة ويستدعي صوراً ومشاهد مضحكة لينشر البهجة بين الأهالي، ويقول إن جمال العروسة رهن باختيار زوجته عيده، ومن لا يستمع لرأيها سوف يعض أصابع الندم، وسيصبح ضحية لاختياره المخالف لمشورة «عيده»!
وحول روح الطرفة الغالبة على شاعرنا يقول الشاعر الكبير حمد بن سوقات: «إن الشاعر منصور يعلّق على كل شيء بالشعر، وتطغى على قصائده الاجتماعية أنواع من السوالف والنكت».
ولذلك - كما يشير الدكتور راشد المزروعي - يعتبر منصور بو زاهرة من روّاد الشعر الاجتماعي الهزلي في الإمارات، كما أن له قصائد أخرى جميلة وذات معنى وحكمة ووصف بليغ.
وحيث إن الشاعر منصور كان محبوبا من الجميع والكلّ يقدره، فقد كان منزله مأوى للشعراء ومحبي الشعر، أمثال الشاعر الكبير سالم الجمري، والشاعر سعيد بن سرور المزروعي، وغيرهما، وكان أصدقاؤه الشعراء لا يغادرون مجلسه فينادمونه بالشعر ويردّ عليهم، وقد اشتهرت قصيدة للشاعر الجمري يشاكيه فيها عندما طلّق الجمري زوجته، ويقول فيها:
«هيّج بكا عيني لعي الورقْ/ بالنوح يلعي فوق لوكور
يلعي طرب وأنا بيّه سَرْقْ/ ما يلام لي مثلي يا (منصور)
أصبح أصلّي جبلتي شرق/ ما عَرْفْ وين الجبله إدّور
أبكي حسف ودموعي هرْق/ الموق ما حفّت م لقطور
بي همَ بي ليعات بي فرْق/ خلّ بحبّه صرت مجبور»
فرد عليه الشاعر منصور بو زاهرة قائلاً:
«يهلا بشكوى من به احتقّ/ عوق الحشا وآزم بلا شور
ذرّف نظيره صايح الورق/ منها استلدّ وردّ لي شور
روحك نفيت الولف واسبقّ/ منك الطلاق وقال مشكور
لكن جيم الصبر واصدق/ والصبر في راعيه ما يبور»
تعكس هذه الردود والشكاوى القيمة الاجتماعية المهمة للقصيدة النبطية الشبيهة هنا بالقنطرة أو الجسر الواصل بين ندماء الشعر الشعبي، وكيف صاغت هذه القصيدة مشهداً مؤثراً من التلاحم النفسي والتناغم العاطفي بين الناس، فصارت بريداً يبثون من خلاله رسائل الوجد، وعبارات الذات الباحثة عن منافذ وحلول تخفّف من مصابها وتزيل همومها، وتساندها وقت الضيق والكَرْب والمعاناة.
أحداث مهمة
من الأحداث المهمة التي غيّرت مجرى حياة الشاعر منصور بن غانم بو زاهرة، تلك التي أعقبت توقّف سفن عن الغوص والإبحار بحثاً عن اللؤلؤ، وتحديدا في عام 1939م، وكان ذلك - كما يرد في دراسة الدكتور راشد المزروعي - لعدة أسباب، أهمها بداية ظهور اللؤلؤ الصناعي في اليابان، ووفرته في الأسواق خاصة في أسواق الهند التي كانت تستورد معظم كميات اللؤلؤ الطبيعي من «طواويش» الإمارات ودول الخليج العربي، وقد زاد من هذه المعاناة اندلاع الحرب العالمية الثانية فتوقفت المؤن الأساسية وانتشرت الفاقة وعمّ الفقر، حتى سميت السنة تلك في الإمارات، سنة: «الفاضة» أو سنة «الجوع» وكانت تسمى أيضاً سنة «البطاقة»، حيث كان يتم توزيع المؤن الأساسية عن طريق البطاقات، وهي مؤن قليلة لم تكن تكفي حاجة الناس، وعانى هذا الأمر شاعرنا منصور بن غانم بو زاهرة، حيث لم تكفِ المؤونة الضئيلة حاجته وحاجة عائلته وحشمه وخدمه وضيوفه، وهو رجل اشتهر بالكرم وبيته مفتوح دائماً للضيوف، ما اضطره لحمل عائلته في قاربه، والذهاب بهم إلى «خور غناضة» على الحدود البحرية بين إمارتي أبوظبي ودبي، وبعد فترة من الاستقرار هناك سافر مع عائلته إلى مدينة دبي والتقى الشيخ راشد بن سعيد، ووالده الحاكم آنذاك الشيخ سعيد بن مكتوم - رحمهما الله - وقد شكل ذلك اللقاء انفراجه كبيرة له وتعديلاً لأوضاعه المعيشية في تلك الظروف الصعبة، حيث خصص له حاكم دبي منزلاً عاش فيه مع أسرته وقد قرّبه الشيوخ لدماثة أخلاقه وطيب معشره، وكان يمتّعهم بحديثه الشائق وأشعاره الخفيفة المرحة، ومارس في ذلك الوقت مهنة الصيد بالصقور رفقة شيوخ دبي، وبات صقّاراً مشهوراً ومولعاً برحلات القنص في مختلف مناطق الإمارات.
رحلة علاج
توفي الشاعر منصور بن غانم بو زاهرة في عام 1965م بعد رحلة علاج للهند لم تتوج بالنجاح إثر فترة معاناة طويلة مع المرض العضال، ودفن - رحمه الله - في مقبرة دبي، تاركاً خلفه إرثاً زاهياً من الحكايات المشوّقة والمغامرات والتحولات الذاتية المرتبطة بتاريخ المكان وبجمالياته البيئية المتنوعة، إضافة للتركة اللامعة من النتاج الشعري الاجتماعي الذي طرّزه بأبعاد إنسانية وفلكلورية ملموسة، وهو نتاج ظلّ نتاجاً محفوراً في ذاكرة الرواة والمعاصرين له والمتلقين لقصائده المزدانة بحسّها الفكاهي وطابعها الشعبي.