د. مريم الهاشمي
وُلد محمد بن أحمد بن رشد، ويكنى أبا الوليد، في قرطبة، وقد اشتغل بالفقه والحديث ودرس علم الكلام والطب والفلسفة، وتولى القضاء كوالده وجده، وكانت حياته مثاراً للأقلام والعقول في عصره وما بعد عصره، فجاءت الحملة تارة من الفقهاء في زمنه، وتارة أخرى من بعض السلاطين لأسباب اختُلف في روايتها، ومنها تحامُـلهم عليه في اشتغاله بعلوم الفلسفة والفلك واعتنائه بمؤلفات أرسطو تفسيراً وتلخيصاً، ليعد بذلك ابن رشد «الشارح الأكبر» لأرسطو. كما اهتم أيضاً بمشكلة الفلسفة والشريعة وفصل المقال فيما بينهما من اتصال.
ومعرض الحديث هنا عن الفكر السياسي لابن رشد الذي جاء متأثراً بالفلسفة اليونانية مع التأثير الإسلامي، والتي نجدها في تلخيصه لكتاب «السياسة» لأفلاطون وكتاب «الخطابة» لأرسطو. وقد حاول أن يجد الشواهد بين النظم السياسية الإسلامية واليونانية رغم الفارق بينهما، وعدم تعارض الكثير من القضايا اليونانية مع الإسلام في الوقت ذاته. هذا مع الوقوف على أن كتاب أرسطو لا يحقق التغيير والإصلاح لأن الكتاب يغلب عليه الطابع الدستوري أكثر من الطابع النظري، ويمكن القول إن ابن رشد استحضره في مجال الأخلاق، وحضورها في المجال السياسي.
فلسفة بالمعنى الحضاري
ويذهب البعض إلى عدم وجود بذرة لفلسفة إسلامية بزعم انعدام حضورها عند الساميين أساساً، وحين البحث عنها نجدنا نقف عند الفرق الكلامية: القدرية والجبرية والصفاتية والمعتزلة والباطنية والأشعرية، وغيرها من فرق علم الكلام. وحين يأتي الوصف بالفلسفة الإسلامية، فإنما يأتي بالمعنى الحضاري والسياسي، تلك التي نشأت في إطار الحضارة الإسلامية! ويمكن اعتبار فلسفة ابن رشد في تلك الفترة التاريخية محاولة لتقريب صور الحكمة لأنصاف المتعلمين من الفقهاء والمتكلمة باعتبارهم الحلقة الأضعف معرفياً في بنية الثقافة الإسلامية.
وحين نلقي المجهر على الفكر السياسي، فإن المستقبل والمصير يصبحان محورين لصيقين بالإنسان والمدينة، وتتجلى صورهما -كما يذكر الدكتور عبدالقادر بوعرفة- في:
-الخوف من المجهول الذي يؤدي إلى رسم استراتيجية الغد.
-رفض الواقع، والذي يؤدي إلى التنظير للحاضر.
-اليأس من الحاضر، والذي قد يدفع الفكر إلى الارتماء في أحضان الماضي لرسم معالم السعادة.
ليصبح الغد والمستقبل أهم ما يقلق الفكر السياسي، وهو ما خلق في الوعي السياسي لدى ابن رشد حالة من التوتر، فالسياسة عند المسلمين هي كُل متكامل، يبدأ من الفرد المدبر إلى غاية الرئيس المدبر شأن رعيته، ولذلك كانت السياسة عند المسلمين مرتبطة بالوحدة العضوية للجماعة، وأن كل فرد مسؤول عن رعيته وعنايته وتدبيره ورعايته، سواء كان ذلك التدبير ناقصاً أم كاملاً. وهي علم وصناعة عملية يجد بها الموجود الفاضل جوهر كينونته، وتستقيم بها أمور العامة، وتصل بها الجماعة إلى السعادة المنشودة ضمن نظام التمدن البشري.
سؤال السعادة والكمال
ولعل ما جعل ابن رشد يقدم السؤال السياسي ليداعب الفكر البشري ويربكه من جانب آخر، معاصرته زمناً أصبح فيه تهافت المدن ظاهرة اجتماعية في بلاد الأندلس، وأنه كلما برقت في أفق الأندلس معالم دولة نموذجية ارتسمت معالم أفولها، فكان سؤال السعادة والكمال الإنساني هما مفتاح عمله، ما عكس المعاناة التي كان يعيشها ابن رشد في مجتمع إسلامي فاسد الأنظمة في زمنه، ومهلهل العقيدة، وتحولت أغلب المدن إلى كتل تحركها اللذات والآراء الكلامية التائهة. وحاول ابن رشد أن يكون مجدداً مع محنة السؤال السياسي الذي جعله يحاول إعادة تأصيل المدينة الإسلامية بمدينة أساسها الشريعة الإسلامية والفلسفة.
ثلاث قوى رئيسة
ومن أكثر مقاربات ابن رشد لتبيان أبعاد المدينة، بيانه أن حال المدينة كحال النفس الإنسانية والجسد الإنساني، فإذا كان الإنسان قوامه وطبعه يكمن في قوى النفس الثلاث، فكذلك الحال بالنسبة للمدينة، والغرض من هذا التمثيل هو وضع المدينة أمام كل الاحتمالات الممكنة، فالمدينة ليست بالضرورة فاضلة بالدوام والقوة، وإنما قد تكسب فضيلتها بالرأي والفعل معاً. فإذا كان حال الإنسان يتحدد وفق الجزء المسيطر عليه من قواه النفسية، فإن المدينة عند ابن رشد تكتسب الحكمة والفضيلة إذا سيطر عليها الجزء النظري وهو ما يمثل سيادة العقل، وتبعاً لذلك يصبح الجزء الغضبي والشهواني تابعاً لمقتضيات الجزء النظري. وإن الجزء الغضبي مهم أيضاً في المدينة كما هو للإنسان، وذلك أنه مكمن الشجاعة التي هي من أهم عناصر قيام المدينة، وبطبيعة الحال قد يصبح الجزء الغضبي والشهواني قوة عمياء، متى سيطرت على أحوال المدينة أو النفس صيرتهما في دائرة اللاعقل.
والجزء النظري حاله كحال البدن الإنساني، وبناؤه بناء عضوي، لجعل المدينة تتأسس على ثلاث قوى رئيسة، فإذا كان الجسم عند الأطباء يتألف من ثلاث مناطق هي: الرأس (مركز كل العمليات)، القلب (مركز كل الانفعالات)، البطن (مركز كل الشهوات)، فإن المدينة تتألف من الرأس (ويمثله الرئيس وهو مركز التدبير والتفكير)، والقلب (تمثله القوة وهو مركز الشجاعة)، والبطن (وهو سائر الفئات الأخرى). وتتأسس مدينة ابن رشد لتصبح مزيجاً من التأملات ومزيجاً من الثقافات، ولكن هذا التباين لا يؤدي إلى الاختلاف، بل إلى التناغم.