نوف الموسى (دبي)

أكثر ما يُمكن أن يُحرك الشعور في الوعي الثقافي، هو أن يتحدث شاعر، عن أثر حضور شاعر آخر، ويسترسل في وصف ذلك المخيال الشعبي، الذي تشكل كلاهما من خلاله، وانتقاء تلك الخيوط المرمية على طُرق الحياة اليومية، وتحويلها إلى معنى قريب من الروح غير المرئية، وتعميق فضاءاتها الداخلية من خلال مجازفة تمرير الطاقة الإبداعية.
في «الاتحاد الأسبوعي»، جاءت القصيدة المغناة للشاعر الكويتي القدير يوسف ناصر، بحثاً في السر خلف الرقصة المستمرة للكلمة عبر الأغنية، وذاكرتها في الوعي الجمعي، تلك التي بمقدورها كما أوضح الشاعر الكويتي دخيل الخليفة عبر حواره مع «الاتحاد»، بأن تعكس العوالم الداخلية للمجتمعات، وهو يرى أن «الأغنية المؤثرة لا يكتبها سوى شاعر يستل العمق من المناطق الشفافة، وهو أمر تكمن صعوبته في سهولته!»، ويستمر الشاعر دخيل الخليفة في تفكيك تلك الصور الشعرية في قصائد يوسف ناصر، من اعتبرها الشاعر والمفكر الكويتي القدير أحمد العدواني بأن الكلمات فيها «تغنى بنفسها بل كأنها كتبت لتغنى فقط». منها أغنية «وين مرساك» للفنان القدير عبدالكريم عبدالقادر وألحان الملحن الراحل القدير عبدالرحمن البعيجان، من شكلوا ثلاثياً استمر في إبداع أجمل الأغاني الكويتية، منذ التقوا بين أوائل السبعينيات ومنتصف الثمانينيات. 

* دخيل الخليفة الشاعر، كيف يُعرّف الشعر الغنائي، وهل فعلاً هناك موسيقى خفية، تسبق الكلمات، ومهمة الشعراء هو إدراك مصدر الصوت القادم؟ وكيف هي أبعاد تعريف القصيدة المغناة عبر مكون الشخصية الفنية للشاعر الكويتي القدير يوسف ناصر؟
** الشعر الغنائي تعبير عن حالة وجدانية عابرة للزمان والمكان، قد تختلف في مضامينها ما بين العاطفي والوطني وغيرهما. ومبكراً أيقن الشاعر الغنائي السر الإبداعي الذي يضمن له البقاء بطريقة (أنا - الآخر) لذا كانت الأغنية بكل اللغات تمثلنا ما دامت لا تحمل رمزاً يجعلها خاصة بمكان أو زمان محددَين، فبقيت مطلقة لا تميز خصوصيتها سوى لهجتها أو لغتها فقط.
الشعر الغنائي وُلِدَ صنواً للموسيقى، كل منهما يحمل الآخر على ظهره عبر طاقات روحية خفيّة، نحس بها دون أن نقبض عليها أحياناً.
كما أن مشاعر التلقّي تختلف من أغنية إلى أخرى، هناك أغنية تخترق الأعماق، ترج الذاكرة، تستحث الدمع، وهناك أغنية راقصة. ولعل الشاعر الكويتي المبدع يوسف ناصر لعب على هذه الأوتار جميعاً، لم يستنزف قدراته بل كان مقلاً في الكتابة إذ ركّز على الطاقة الإبداعية في الأغنية منطلقاً من خبرة وتجربة حياتية.

* أنت ترى أن الزمن هو ذاكرة متحركة، وهو ما أشرت له في مقدمة ورقتك «رحلة حول التجربة».. إلى أي مدى استطاع يوسف ناصر، في جعل الذاكرة متحركة عبر النص الغنائي، وقد أتجاوز قليلاً كلمة «متحركة» إلى «حيّة» إن صح التعبير، فكلما سمعت الفنان عبدالكريم مثلاً يغني: «أحسب الجيات كم مرة أجي.. واحسب النظرات لي ضاع الحكي»، أتساءل بيني وبين نفسي: من كان وقتها يعد النظرات؟ 
** الأغنية الحقيقية ذاكرة حية متنقلة ومتجددة أيضاً، بعض الأغاني خالدة كونها خارج المألوف شعراً ولحناً، والأغنية المؤثرة لا يكتبها سوى شاعر يستل العمق من المناطق الشفافة، وهو أمر تكمن صعوبته في سهولته! حتى أن بعض كلماته تصبح أمثالاً على ألسن العشاق.. في أغنية (مانسيناه) مثلاً تجد تآلفاً رائعاً بين المفردة واللحن، حتى كأن الملحن الراحل عبدالرحمن البعيجان غاص في روح صديقه الشاعر يوسف ناصر.. والحال ذاته في «أحسب الجيات» وغيرها، تأخذك الأغنية بعيداً وتعود بك إلى ذاتك، ذاكرة متحركة تعكس وعياً حقيقياً بمفهوم الأغنية.

* من المهم إدراك مسألة القصيدة الغنائية في دولة الكويت في الستينيات تحديداً، وأعتقد وقتها كنت طفلاً (مواليد 1964)، وذاكرتك برهافتها الأولى، لذا سؤالنا يبحث عن مسألة «التأثير» على القصيدة الغنائية في المملكة العربية السعودية، مثلاً عندما نتحدث عن الراحل القدير فائق عبدالجليل، نتذكر مسفر الدوسري، ولذلك فإن الحديث عن الشاعر القدير يوسف ناصر، وما قدمه مع الفنانين الراحل القدير طلال مداح ومحمد عبده وعبدالرب أرديس وغيرهم، كيف تراه كجزء شكل ذاكرة الأغنية الخليجية وطفولة مواليد الستينات عموماً؟ 
** الحديث هنا عن بيئة واحدة وإن تجاورت الخرائط، تكاد تكون اللهجة مشتركة ومفهومة، كما أن المستمع يكاد يكون واحداً أيضاً لأن الفنانين المذكورين تعاملوا مع شعراء أغنية محددين لذا نشأت الذائقة الخليجية تحديداً على كلماتهم واستوعبت ما اختلف من مفردات في اللهجة بين هذه البيئة وتلك حتى أصبحت واحدة.. فكما كانت «القاهرة» عاصمة الفن العربي، كانت «الكويت» عاصمة الفن الخليجي وخصوصاً على صعيد الغناء والمسرح.. ولأن يوسف ناصر أدرك مبكراً أن الأغنية يجب أن تتميز بترتيب الفكرة والوضوح وبساطة الجملة الشعرية وصدق المشاعر وكذلك السرد المقتضب استطاع التأثير في المستمع وفتح نافذة خياله على الدلالات التصويرية بمفردات معبرة، لكون يوسف ناصر قارئاً جيداً للشعر الفصيح والقصص العاطفية، كما أنه كان يحسن اختيار الملحن، لأنه تعلم مبكراً العزف على آلتي العود والكمان، قبل أن يتجه تماماً للشعر.. لكن في اتجاه آخر اختلفت الأغنية السعودية لاحقاً بتجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن المتفرد في نصوصه المغناة. 

* دخيل الخليفة، كيف تفاعلت مع القصائد الغنائية ل يوسف ناصر، إذا كانت هناك تجربة حسية ممكن ترويها لنا، خاصة أنك تؤمن بأن «الشعر ليس علماً وأن ارتباطه بالموسيقى كان ارتباطاً جمالياً، لتسهيل حفظه وتناقله شفاهياً كتعبير عن انفعال جماعي، يعكس واقعاً اجتماعياً ما».
** في منتصف الثمانينيات حصلت على ديوان شعر يتضمن بعض الأغاني التي كتبها يوسف ناصر، ثم علمت لاحقاً أنه يكتب شعراً فصيحاً أيضاً، كان يمتلك موهبة متدفقة، وعشقت أغانيه الخالدة (وين مرساك) و(مانسيناه) و(يكفي خلاص) و(تعيش وتسلم) و(دار الهوى شامي يابو عبدالله) وغيرها.. ويوسف ناصر ابن جيل ذهبي سطع في فترتي الستينيات والسبعينيات، حينما كانت الموهبة وحدها التي تكفل ظهور الشاعر والفنان. 
في الأغنية التي أحبها (وين مرساك) يأخذك الخيال بعيداً وكأنك شراعك يشق أمواج البحر فعلاً، رغم أنها تعبر عن حالة عاطفية، وهي واحدة من أجمل الأغاني الكويتية.

الفصحى والعامية
* هل كل قصيدة ممكن أن تغنى؟
** بالطبع لا، فالأغنية سواء كانت بالفصحى أو العامية تتطلب الوضوح وجمال الصورة لتحرك العاطفة والخيال معاً.. كل كلام يمكن تلحينه، لكن الغناء يتطلب المفردات السهلة حتى وإن تميز المعنى بالعمق. فالشاعر الغنائي هو ابن الإنسانية جمعاء، والأغنية تحتل مكانة كبيرة في التراث الثقافي العالمي لأنها لغة الأكثرية، على عكس القصيدة التي هي فعل نخبوي محض.. ومنذ شعر الجوالين (تروبادور) في فرنسا خلال القرن الثاني عشر تقريباً كانت الأغاني تمثل الوعي الجمعي وتعكس العوالم الداخلية من عاطفة وانكسار وحنين وغيرها.

* هل يؤثر انتقال القصيدة إلى غنائيتها على معنى القصيدة؟ فقد ذكر الشاعر يوسف ناصر أن الملحن أحمد باقر، في إحدى القصائد احتفظ فقط بالبيت الأول، وأزال باقي القصيدة وطلب من يوسف ناصر أن يعيد كتابتها، وقتها وصفه يوسف ناصر بأنه ملحن دقيق وصعب.
** في أغلب الأغاني كان الملحن سيد الموقف والمتحكم بشكل الأغنية النهائي، فإحساسه بالمفردة يفوق إحساس الشاعر أحياناً.. ثمة من يكتب الأغنية على شكل قصيدة، فيما الملحن يميل لأسلوب الكوبليهات، يختار «كوبليه» يرى أهمية تكراره في الأغنية لربط المقاطع وتسلسل الفكرة، كما يرى بعض المفردات منفرة، حدث هذا في أغانٍ فصحى أيضاً، في (قارئة الفنجان) تم تغيير أكثر من مفردة، وكذلك في القصائد الشعبية التي كتبها فائق عبدالجليل ومظفر النواب وزهير الدجيلي وفؤاد حداد وآخرين بطلب من الملحنين، فتم بتر النصوص واختيار مقاطع محددة منها عكست رؤية ووعياً كبيراً لدى الملحنين الذين كانوا أبناء تيارات فكرية أيضاً.. لكن في كل هذا التغيير البسيط الذي يحدث لن يتأثر مضمون النص، لأن ما يهم المستمع هو شكل الأغنية النهائي، وليس القصيدة المكتوبة.

تعيش وتسلم
* الشاعر يوسف ناصر محمد المسفر من مواليد الكويت عام 1943
* أحد رواد الأغنية الكويتية
* التحق بمؤسسة الفنون التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل
* أثرى الساحة الفنية بأبرز الأغاني من مثل: «تعيش وتسلم»، «بالهون عليه بالهون»، «جاني يتشكى»، «ما نسيناه»، «وين مرساك»، «غاب بدري»، و«الفرحة طابت» و«آه يالأسمر يا زين»، «ناطرين أحباب»، «الله حسيبك»، «زين الحلا»، «سر المحبة»، «طيف الأحبة»، «يكفي خلاص».
* كون نجاحات مهمة مع العديد من الفنانين في الخليج: عبدالكريم عبدالقادر، محمد عبدو، وطلال مداح، وعبدالرب إدريس، ومن المخضرمين الذي تعاون معهم الفنان القدير عوض الدوخي.