إبراهيم الملا
«رعى الله صاحبٍ قد له زماني/ قِطَعْ وَصْلَهْ وسكّر تيلفونه
تِغيّر عنّي وصدّ وجفاني/ وصكّ الباب من دوني ودونه
نسيت الزين يا دعج الأعياني/ وموضوع الهوى غيّرت سونه
تنكّد قلبك وصرت إزعلاني/ عقب ما روحك إلروحي حنونه
وسيّسنا وشيّدنا المباني/ نِشِيد السّاس وانْتو تهدمونه»
في هذه القصيدة الشهيرة للشاعر سعيد بن مهيله، نرى الميل الواضح للمفردة المحلية المتناغمة مع إيقاع الحياة اليومية، ومع سياقها الشعبي المتحرك في أفق البصر، وفي مديات النظر، يبث بن مهيله شكواه في هذه القصيدة ذات الإيقاع النابض والحيوي والمتخفف من لزوميات البحور الشعرية الطويلة، ليحقق بذلك توازناً بين الصدمة واللهفة، وليضع المحبوب المعاند والصعب المراس في موضع اختبار حقيقي مع رغبة الشاعر المتأججة لعودة المياه لمجاريها، وردم الهوة العاطفية الفاصلة بينهما، والتي طال أمدها وتعمّقت مساربها، ورغم هذه الجفوة المترافقة مع الصدّ والنكران، نرى بن مهيله، وهو يقتنص الأمل ويحرره من قبضة اليأس، فاتحاً عدة منافذ للوصال، تاركاً باب قلبه موارباً، أمام باب المحبوب المغلق، وأمام وسائل الاتصال المقطوعة من قبله، ينتقد بن مهيله تصرفات وسلوكيات الطرف المقابل، ولكنه لا يتمادى في انتقاده، مستمسكاً بالرجاء، ومشتملاً على الصبر، باذلاً في سبيل الوصال جهداً داخلياً كبيراً للإبقاء على حبل الودّ، واستذكار وتأكيد صفات المحبوب الإيجابية فهو «دعج العيان»، وهو «حنون»، وتظهر تمثّلات التوق الجارف للشاعر في اشتغاله الواضح على ثيمة «الزعل» باعتبارها ثيمة عاطفية مرنة، ودائماً ما تكون مقرونة بالعتب المؤقت لا بالهجران القاطع المانع.
ويكمل بن مهيله قصيدته بكتلة حسّية حارّة ومتخمة بالشوق، قائلاً:
«متى بتعود لي يا الخلّ ثاني؟/ بعطفٍ منك قلبي ترحمونه
ترفّق يا الضنا قبل الدفاني/ وخاف الباري يللي تعبدونه
رجاك تعود يا حلو الثماني/ وماضينا عساكم تذكرونه
رسلت الخط ما ياني بياني/ لحد الآن ناطر تبعثونه»
إن مضمون الأبيات السابقة وطريقة سبكها تدل بشكل لا يقبل التأويل أن الشاعر قد استسلم لرغبة المحبوب حتى لو لم يذكر ذلك صراحة، إنه يضع العبارة الشعرية في سياق التساؤل المنطوي على الإجابة الجاهزة «متى بتعود لي يا الخلّ ثاني؟/ بعطفٍ منك قلبي ترحمونه»، مستطرداً في البيت التالي مقولته النابعة من ثنايا القراءة الدقيقة لمجريات العمر وحتميات القدر «ترفّق يا الضنا قبل الدفاني»، فالموت المعنوي بات مساوياً لديه للموت الماديّ، مذكّراً محبوبه بسطوة السماء على أهل الأرض «وخاف الباري يللي تعبدونه»، وكأن علاقته بالمحبوب مقرونة بسيرورة الحياة ذاتها، ولا يمكن فصلها وبترها لأنهما من صميم وجودهما، وهي جوهر الخلق من الإنشاء إلى الفناء.
المجالس الشعبية
ولد الشاعر سعيد بن كلفوت بن سرور بن مهيله الشامسي في قرية السنينة، في عام 1939 وتوفى - رحمه الله - في عام 1998 وعاش وترعرع بين قرى السنينه وحفيت ومزيد والبريمي والعين، وحفظ القرآن الكريم في المدارس الفطرية القديمة «الكتاتيب» متأثراً في شبابه بشعراء العين الفحول الذين كانت لهم صولات وجولات في المجالس الشعبية وفي المناسبات الاجتماعية، حيث انتقلت شرارة الإبداع إلى بن مهيله مبكراً، وتعرّف على صنوف وفنون هذا الشكل التعبيري المتميّز والمانح لمنتجه وناظمه مكانة بارزة بين الأهالي والناس، خصوصاً إذا استمر الشاعر في إبداعه، وشغلت قصائده الأذهان وذاع صيتها في المحافل والأرجاء.
يذكر الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي في مقدمة كتابه «ديوان بن مهيله» الصادر عن نادي تراث الإمارات عام 2008م أن الشاعر سعيد بن مهيله كان بارعاً في الشعر الغزلي، وكان بحق يعتبر أستاذ الغزل بين زملائه، حيث يطغى الغزل على جميع أبواب شعره، إذ لم يتطرّق - رحمه الله - إلى بقية المواضيع في الشعر النبطي سوى المديح والوطنيات، أما المواضيع الأخرى، فهي قليلة ولا تكاد تُذكر، ويستطرد المزروعي، قائلاً: إن تفوّقه في الشعر الغزلي كان واضحاً، حيث ركّز عليه وأبدع فيه أجمل القصائد، التي كان يلقيها في مجلس شعراء القبائل بتلفزيون أبوظبي بطريقته المميّزة في الإلقاء والتي تجذب الانتباه وتشدّ الأسماع، وكان معه في البرنامج زملاءه الشعراء: سعيد بن هلال الظاهري، ومحمد بن راشد الشامسي، وسالم الكاس، وكميدش بن نعمان، ومحمد بن بنان، وعوض السبع، وعبيد بن معضد، وهؤلاء كانوا حينها من أعمدة الشعر النبطي في مدينة العين، وقد بقى بن مهيله عضواَ في البرنامج حتى وفاته.
ويرد في ديوان بن مهيله عرضاً لسيرة شاعرنا الحياتية، حيث عمل في البداية بشركات البترول في مناطق داس وطريف، وكان ذلك في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، ونظّم يومذاك بدايات قصائده حيث كان يعمل معه العديد من الشعراء أبرزهم الشاعر عوض بن راشد بالسبع، وسالم بن سيف الخريباني، ومحمد بن رغش الشامسي وغيرهم، وقد كانت بداياته معهم عن طريق المجاريات والشكاوى، أي تبادل الأشعار والقصائد في مناخ تفاعلي يبدأ من القصيدة الأصلية التي نظمها الشاعر وينتهي بردّ أو عدّة ردود متناوبة حتى استنفاذ الغرض منها.
ظلّ بن مهيله يعمل في شركات البترول حتى بدايات الستينيات، ثم انتقل للعمل في قوة ساحل عمان، وظل فيها ما يقارب الخمس سنوات، ثم استقال منها، والتحق بسلك الشرطة في أبوظبي، وتم تعيينه في الإدارة الشرطية بمدينة العين، واستغل وجوده هناك ليقوّي مهاراته في القراءة والكتابة التي كان يعرف أساسياتها منذ صغره، ما ساعده على كتابة قصائده بنفسه، واستمر في شرطة العين لسنوات طويلة، حتى استقال في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وانضمّ بعد ذلك للعمل بديوان ممثل الحاكم في منطقة مزيد بالعين، ثم تفرّغ بعدها متقاعداً عن العمل ومنشغلا بإنتاجه الشعري المتمتّع بالغزارة والتدفّق والوصف الأنيق لأحوال المحبين ومدارك العاشقين.
تمييز القافية
من القصائد الزاهية للشاعر سعيد بن مهيله تلك التي يقول فيها:
«تيني هوايس ع التماثيل/ لي شفت من يرزي مثايل
يشعل ضميري واهيِ ويل/ وتازم تشاملني وشايل
ويهيض بي م الخاطر الجيل/ وارسم سطورٍ بالدلايل
عيني ربت بو خصرٍ انْحيل/ خلّا العضايا في نحايل
حبّه رسم لي في الحشا ويل/ في ضامري والحبر سايل
محروز من حكي المعاذيل/ هو فرض والعالم نفايل»
يلجأ بن مهيله في هذه القصيدة للقافية المعتمدة على حرف «اللام» في شطري البيت الشعري، مع تمييز القافية بحرفين مختلفين في كل شطر «تماثيل/ مثايل»، فبين الكسر والرفع تتوضح قدرة الشاعر على خلق إيقاع متماوج بين الهبوط والارتفاع، والانخفاض والعلوّ، مشكّلاً بذلك لوحة شعرية جمالية تجمع المتضادّ بالمتشابه، والمتآلف بالمختلف، والعصيّ بالطيّع، مترجماً هواجسه في قالب لغوي.
السمع والخاطر، ويتيح للمتلقي الدخول في لعبة التأثير والتأثّر، والاشتباك بالتالي مع حالة الشاعر الوجدانية، ومع كلماته العذبة، المعنية بالتفاصيل الظاهرة والأخرى الخفيّة، حيث يبرع الشاعر هنا في استجلاء المعاني المتوارية، من خلال تسليط الضوء على حيثياتها الكامنة، وعرضها بوصفٍ بديع، وتشبيه متضامن مع صورة المحبوب، ومع تداعيات العشق، سواء كانت الصورة تخيّليّة أو مُجَسَّدة، وهو بذلك يقرن الغائب بالحاضر، ويرفع حالة الصبابة والوجد إلى مقام يزهو بتجليّاته في الروح والبصيرة.
أجمل القصائد
يمكن وصف سعيد بن مهيله بأنه «شاعر الرزيف» بامتياز لأنه تمكن من هذا الفن، وصاغ أجمل القصائد المتعلقة بالرزفة التي تعتبر من أبرز فنون البادية لارتباطها بالأعراس والمناسبات المهمة، وتستوعب «الرزفة» القصائد ذات المنبع الفصيح، وهي قصائد تتناغم مع الأداء الجماعي للمؤدين، ومع الطقس الحماسي لاحتفاليات تجذب الأسماع وتستقطب الأذهان وتهفو لها القلوب وتزهو على وقعها الذاكرة الجمعية، وكانت للشاعر سعيد بن مهيله فرقة حربية معروفة في مدينة العين، وكان هو قائدها وشاعرها، واستطاع أن يستثمر موهبته الشعرية في توليف إيقاعات هذا الفن وتطويره والارتقاء به، موظفاً كلماته ومفرداته وخصوصية تجربته في إضفاء الجمال المضاعف على الشكل الأدائي، والمضمون المعنوي، وسط فضاء عام تطغى عليه مشاعر الفخر والفروسية والنخوة، بجانب بعض القصائد الغزلية المروّحة عن النفس، والمطرّزة بمشاعر الحنين وفائض الإحساس وشفافية البوح.