إيهاب الملاح (القاهرة)
من الكتّاب الذين تفننوا في الكشف عن جمال العربية وخصائصها الذاتية، الموسوعي الراحل عباس محمود العقاد (1889 - 1964)، وكان عضواً فاعلاً ونشطاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ومن خلال هذه العضوية ظلّ العقاد لسنواتٍ طويلة يناقش قضايا وموضوعات تتصل ببنية ومعاني اللغة العربية، وكان يرى أن العربية لغة «علمية» تستوعب المصطلحات الأجنبية، والترجمات من الحضارات الحديثة، في الوقت الذي كان يوازن بين بنية ودلالات ألفاظها واللغات الأخرى، ويتحدث عن شاعريتها وخصائصها الذاتية.
خصص العقاد أكثر من كتاب، بكامله، لدراسة الظاهرة اللغوية بعامة واللغة العربية خاصة، وتاريخها وخصائصها، وقدّم لونا من البحث المقارن الرفيع بينها وبين مثيلاتها من اللغات قديمًا وحديثًا. العقاد علم كبير وأستاذ موسوعي بمعنى الكلمة له إنتاج قيم وأصيل في الدرس اللغوي وبحث جمالية اللغة العربية التي خصص لها كتابا بديعا بعنوان «اللغة الشاعرة»، وله غير «اللغة الشاعرة»، كتابه الرائع «أشتات مجتمعات في اللغة والأدب»، وهو مجموعة منوعة من الفصول الممتعة حول مباحث لغوية وموضوعات تتصل بفلسفة اللغة العربية وطبيعة نظامها أو نسقها الخاص.. في الأصوات والألفاظ والتراكيب والدلالات. وكتاب «اللغة الشاعرة»، من أعذب كتب العقاد وأثراها. بحث أصيل في جمال وعذوبة اللغة العربية، وما تحمله من خصائص ذاتية، صوتا وتركيبا، جعلته يجزم بأنها «لغة شاعرة». أما الأهم، فإنه مكتوب بمحبة ومعايشة وذائقة عالية، الكتاب مفعم بالحماسة الصادقة والخبرة الوفيرة، وإن لم يكن منه إلا المتعة والإحساس بجمال اللغة ووضع قدم على طريق تذوقها فكفى..
في هذا الكتاب، وصف العقاد اللغة العربية بأنها لغة مجاز، وصناعة المجاز عرَّفها بأنها التي تخلق الشعر وأن صناعة المجاز تشير إلى أن اللغة «لغة شعرية»، كأن العقاد أراد أن يؤكد حقيقة قد تغيب عن البعض وهي أن اللغة العربية هي لغة شعر بالأساس، وأن اللغة الشاعرة قادرة على توثيق الكلام في إطار شعري فاللغة العربية لغة مصوّرة، والعقاد يقول بأن نطق اللغة يساعد على تكوين الشعر ويتحدث عن الأزمنة في اللغة ودور اللغة في تشكيل البحور والتفعيلات الشعرية. وعلى مدار صفحات الكتاب، يصحبنا العقاد في رحلة فنية تُمتع الأنظار والأفهام بجماليات لغة القرآن، مناقشاً آراء المستشرقين ومسلطا الضوء على جماليات العربية وعلو شأنها، متبعاً أسلوبه العلمي الرصين ومسلحاً باطلاعه العميق على علوم اللغة، قديما وحديثا.
يقول العقاد، إن اللغة العربية وصفت قديماً وحديثاً بأنها لغة شعرية، وإن الذين يصفونها بهذه الصفة يقصدون بها أنها لغة يكثر فيها الشعر والشعراء، وإنها لغة مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما يستريح إلى النظم المرتل والكلم الموزون، كما يقصدون بها أنها لغة يتلاقى فيها تعبير الحقيقة، وتعبير المجاز على نحو لا يُعهد له نظير في سائر اللغات. ويرى العقاد أن اللغة العربية التي وصفها بأنها «لغة شاعرة» ذات موسيقى، مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما تمتاز عن سائر اللغات بحروف تفي بكافة المخارج الصوتية، وتستخدم جهاز النطق أحسن استخدام، فتنفرد بحروف لا توجد في أبجدية سواها كالذال والضاد والظاء.
وهي كذلك، بحسب العقاد لغة ثرية بمفرداتها الفصيحة الصريحة التي تحمل بداخلها موسيقى خفية، فنجد أن الشعر العربي «ديوان العرب وسجل أحوالهم ووقائعهم وحامل تراث ثقافتهم وتقاليدهم»، المنظوم من تلك المفردات، منفرد باجتماع القافية والإيقاع والأوزان القياسية في آنٍ واحد. وتتميز العربية، وفق بحث العقاد، بوضوح أزمنتها وعدم اللبس فيها.