محمد نور الدين أفاية

 تحتفل العديد من المؤسسات والأوساط بـ«اليوم العالمي للفلسفة» في شهر نوفمبر من كل سنة، ومنها من يحتفل بها طول الوقت، كما لا يتوقف آخرون عن الاحتفال بموتها ونهايتها، لاعتبارات ومبررات متنوعة. والحال أن خطاب النهايات لا يخص الفلسفة فقط، بل يطال التاريخ، والسينما، وحتى السياسة. والقول بموت الفلسفة لم يعد خطاباً جدياً منذ انكشاف نبوءات هيغل وماركس، الأول بتوقعه نهاية الفلسفة بتحقق العقل في التاريخ والدولة، والثاني بحلم إنجاز الثورة العمالية وشيوعها. 
 وليس الحديث عن موت الفلسفة جديداً، وهو حديث يتكرر كلما حصلت اكتشافات تقنية أو علمية ليقول القائلون بموتها، إن الانفتاحات العلمية تجيب على الكثير من الأسئلة التي تشتغل عليها الفلسفة، أو أنها تعرض على الإنسان حلولاً تعفيه من قلق الاستفهام ومعاناة التفكير والنقد، ويتكرر هذا الحديث أكثر في الأوساط المحافظة التي تخاف من التفكير ومن الحرية تحت دعاوى كون الفلسفة لا تمت إلى التاريخ الفكري للأمة، وتحرض على الشك والتمرد، وتهدد مواقع حاملي الأجوبة الجاهزة.
من يقول بـ«موت الفلسفة»، أو بنهايتها، سواء بدعوى التبرم من سطوة العقل وشموليته التي تفرضها بعض الأنظمة التوتاليتارية، أو بنقد إنتاجات العقل المتجسدة في التقنية وما تولده من مظاهر استلاب وضياع، أو من يبرر الخوف منها تحت ذريعة حماية العقيدة والتراث، ينسى أن هذه التبريرات إذا كانت تندرج ضمن التحريض على التحرر من هيمنة العقل، أو حراسة الملة، فإنها تشجع على الارتماء في طمأنينة اللاعقلانيات أو في حقل من حقول التخيل المريح، أو العودة إلى أصول الأشياء والأمور البسيطة والارتكان إلى الكسل الفكري. ولذلك يعتبر آلان باديو أن إعلان موت الفلسفة أو «نهاية السرديات الكبرى» تعبير عن اللاتواضع، لأن يقين «نهاية الميتافيزيقا» يدور حول عنصر ميتافيزيقي لليقين.

الوعي والفكر
 وإزاء المبررات المتنوعة التي تقدم للانتقاص من الفلسفة ينتفض فلاسفة ومفكرون كثر ضد هذه الدعاوى ليس للدفاع عن الوظيفة المُؤسِّسة للفلسفة في الوعي والفكر، أو لتثمين قيم العقل النقدي، وإنما لكشف خلفيات الداعين إلى موت «مادة» أصبحت عرضة لهيمنة معالجات إعلامية أو مقاربات أخلاقية، ولكن من دون أن تفقد صدقيتها الفكرية كلما وجدت المناخات المحفزة على السؤال والتفكير والحرية. 
 هكذا وجد كثير من الفلاسفة أنفسهم في موقع الدفاع عن الفلسفة للرد على سياسات قتلها والرغبة في إزاحتها من عالم الفكر والثقافة والتدريس، حتى في بعض البلدان التي تمتلك تاريخاً طويلاً في الإنتاج الفلسفي وفي تدريسه، كما حصل في فرنسا في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حين اتخذت الحكومة قرارات كانت ترمي إلى الحد من تدريس الفلسفة. الأمر الذي أدى إلى انتفاضة عدد كبير من فلاسفتها، ومنهم دريدا ودولوز ونخبة من الفلاسفة ومدرسي الفلسفة، للرد على قرارات الدولة التقنوقراطية، ونظموا حركات احتجاجية وندوات وما أسموه «مجالس عامة للفلسفة» تمخض عنها نشر كتابين جماعيين بعنوان «من يخاف الفلسفة؟». 

تهافت المواقف
 ولعل ضمن من ناضلوا وما يزالون من أجل الفلسفة والفكر النقدي يبرز الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، الذي أسعفه تكوينه الرياضي والعلمي في إنتاج فلسفة انضبطت، بدرجات متفاوتة، لمقتضيات التفكير المنطقي الذي يسمح بتعرية تهافت المواقف الإيديولوجية من الفلسفة وفي غيرها من مجالات النظر والإبداع. فهو يرى أن «مَرَض» نهاية الفلسفة يتيح المجال لسؤال مختلف هو سؤال شروطها، باعتبار أن الفلسفة مُمكنة في كل وقت، شريطة معالجة الشروط التي تجعل منها ممكنة، بشكل عام، في تطابق مع مسارها وتوجهاتها. (بيان من أجل الفلسفة، 1989).  لقد حرر باديو كتابين في شكل بيانين عن الفلسفة، نشر «البيان الأول من أجل الفلسفة» سنة 1989، والبيان الثاني سنة 1999. وقد انتقد، بقوة، في البيان الأول تصالح الاشتراكيين، في عهد فرانسوا ميتران، مع منطق السوق والرأسمال، كما سخر مما أسماه «مستودع موتي» الفلاسفة الجدد ومظلاتهم الإنسانوية وحقوق الإنسان الموصولة بحق التدخل في شؤون الدول باعتباره العَرْض الوحيد المتاح لهم، وتنطُّع القلعة الغربية لإعطاء الدروس الأخلاقية لجوعى العالم كله، والانحدار من دون مَجْد للاتحاد السوفييتي الذي أدى إلى شغور الفرضية الشيوعية، وعودة الصينيين إلى عبقريتهم التجارية، واقتراح الديمقراطية في كل مكان مع الديكتاتورية الكالحة للأوليغارشية الضيقة للرأسمال المالي، والسياسيين المحترِفين ومقدمي التلفزيون وعَبَدة الهويات الوطنية والعرقية والجنسية والدينية والثقافية الذين يحاولون تفكيك الحقوق الكونية. هكذا لخص باديو سياق الهجوم على الفلسفة حين حرر بيانه الأول.
 غير أنه بعد عشر سنوات من تحرير هذا الكتاب/‏‏‏‏ البيان واستحضار سياقه، يعاين باديو أن ما يسميه جمود الظواهر زاد أمره سوءاً، وإن بقي يمسك بخيوط التفاؤل معتبراً أن «كل ليل ينتهي ببُشرى طلوع الشمس». وقد صاغ السؤال المركزي للفلسفة كالتالي: «ما هي الحياة التي تستحق أن نسميها حياة؟».

نقد المسبقات
 وبمقدار ما يدافع باديو عن الفلسفة فإنه يرى أنها ليست مجالاً مُنتجاً للحقائق بل تمثل الحقل الذي يحصل فيه التفكير في الحقيقة بطريقة نسقية، لأنه إذا أردنا النظر إلى الموضوع عن قرب سنعثر دائماً على أجوبة على أسئلة مثل «في أية شروط تنتج الأفكار الجديدة؟»، و«كيف ينبثق الفكر؟»، و«ما هو الإبداع داخل نظام الفكر أو نظام العمل؟»، و«ما هي عناصر الجِدّة والتغيير التي تساعد على المَعْيَرة normer وإنتاج مقياس الإبداعية؟». 
 ومهما كانت مواقف هذا الفيلسوف أو ذاك من المشروعية الفكرية للفلسفة، ونوعية توازن القوى بين القائلين بموتها أو بفائدتها الدائمة، فإن قوة الفكر الفلسفي تتمثل، بالأساس، في نقد المسبقات، والأوهام، والإيديولوجيات، وبمقدار ما هو اجتهاد، بل وكفاح سلاحه الأساسي هو العقل، فإن له أعداء، كما يقول آندري كونت سبونفيل، يتمثلون في تعبيرات البلاهة والتعصب والانغلاق، ولهذا الاجتهاد أو الكفاح حلفاء يجدهم في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي العلوم الدقيقة، كما في مجالات الإبداع الفني والأدبي.  والظاهر أن هذا الاجتهاد غدا أكثر من مُلح في زمن سطوة البلاهة ومختلف مظاهر التشدد والسطحية التي تتيحها مواقع التواصل الجديدة.