مدني قصري

في كتابه الأخير «غَرَقُ الحضارات» Le naufrage des civilisations يغوص الروائي والكاتب الفرنسي اللبناني أمين معلوف، الفائز بجائزة «أوجوردوي 2019» (Prix Aujourd›hui 2019) في تأمّل لا يخلو من تشاؤم، حول حالة العالم العربي والغرب. فمؤلفُ كتاب «الهُويات القاتلة» Identités meurtrières، الذي لم يُخْفِ الكثيرَ من القلق بشأن عودة ظهور تحدي القوميات قبل 20 عاماً، يتساءل اليوم عن صعود الفوارق والشعبوية، ويرى قدومَ الغَرق العام، الذي سيؤثّر على جميع فضاءات الحضارة. والحال أن تحليلات أمين معلوف تستحق الانتباه والاهتمام حقاً: لقد أضحَى حدسُه وتخميناته تنبؤات، بحكم ما يمتلكه من معرفة مسبقة عن مواضيع رئيسية كبرى، قبل ظهورها في الوعي العام. فقبل عشرين عاماً كان يشعر بالقلق من ظهور الهُويات القاتلة. وقبل عشر سنوات كان أيضاً يشعر بالقلق من اختلال العالم. وهو اليوم مقتنع بأننا نقترب من عتبة غرقٍ عالمي، سيؤثّر على جميع فضاءات الحضارة.
وفي التفاصيل، فأميركا، رغم أنها لا تزال القوة العظمى الوحيدة، تفقد الآن جوانب من مصداقيتها الأخلاقية. وأوروبا، التي قدّمت لشعوبها ولبقية البشرية المشروعَ الأكثر طموحاً ودفئاً في عصرنا، آخذةٌ هي أيضاً في الانهيار. والعالم العربي الإسلامي يمر، هو الآخر، بأزمة عميقة تُغرق كثيراً من سكانه في أحوال اليأس، ولهذه الأزمات تداعيات كارثية على الكوكب بأسره. إن دولاً كبيرة «ناشئة»، أو «تنهض من جديد»، مثل الصين والهند وروسيا، تطفو اليوم على المسرح العالمي في مناخ من التدافُع الضار، حيث يسود مبدأ «كلٌّ لنفسه» ويتسيّد المشهد «قانون الأقوى». ويبدو أن سباقاً للتسلح جديداً بات هو أيضاً، شبه محتوم، ولا مفر منه. هذا ناهيك عن التهديدات العالمية الأخرى الخطيرة (المناخ، البيئة، الصحة) التي تثقل كاهل الكوكب، ولا يمكننا مواجهتها إلا من خلال تضامن عالمي واسع نفتقر الآن إليه على وجه التحديد.
ولأكثر من نصف قرن، ظل المؤلف يراقب العالم ويسافر فيه. فقد كان في سايغون في نهاية حرب فيتنام، وفي طهران أثناء مجيء «الجمهورية الإسلامية». وفي هذا الكتاب القوي والواسع، يؤدي دورَ المتفرّج الملتزم والمفكر، حيث يخلط القصص والتأملات، ويسرد أحياناً الأحداث الكبرى التي تصادَف أنه كان أحد شهود العيان النادرين عليها، ثم يستدعي خبرة المؤرخ ضمن خبرته الخاصة، ليشرح لنا الانجرافات المتتالية التي مرّت بها البشرية لتجد نفسها على أعتاب الغرق. 
وحول كتابه الأخير «غرق الحضارات» كان لنا معه هذا الحوار: 
*ما هي مناسبة كتابك؟
** يبدأ غرقُ «الحضارات كذكريات» في شكل ذاكرات حميمية. ثم، شيئاً فشيئاً، يتطوّر إلى منحى مختلف. يبدو الأمرُ كما لو أنني أنظر إلى عالم طفولتي، ثم أبتعد شيئاً فشيئاً، ومع ابتعادي تدريجياً أرى صورةً أكبر قليلاً. وهنا، خاصة عند سن العشرين، أبدأ في مراقبة العالم بطريقة أوسع قليلاً، وفي محاولة فهم ما حدث، وكيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
* ما هو تعريفك للحضارة، وكيف تُرسِّخ وتوطِّد أركان المجتمعاتِ البشرية؟
** إن فكرة الحضارة كما أستخدمُها في هذا الكتاب، هي بالأحرى فكرة بسيطة. إنها إشارة إلى الفكرة التي نشأت، خاصة في نهاية القرن العشرين، عن ما سُمي صِدام الحضارات. ويلخص عنوان الكتاب هذه الرسالة التي مفادها أن جميع الحضارات في النهاية هي التي تغرق!
إنها ليست مجرد حضارة بعينها تصارع حضارة أخرى، بل إنها جميعها في ورطة، وجميعها بصدد الانهيار، وإذا حدث وغرقت، فستغرق جميعها معاً. إنني أتناول فكرة الحضارة بالمعنى التجريبي، ولا أحاول العودة إلى التمييز القديم الأكثر كلاسيكية، بين الحضارة والثقافة... أودّ أن أقول إنه استخدامٌ أكثر شيوعاً لمصطلح الحضارة.
* كيف حدّد الإرثُ الذي اكتسبتَه خلال نشأتك في لبنان، مسار روايتك؟
** ظني أنه عندما نكبر في منطقة توجد فيها ثقافات، ونزاعات مستمرّة... فإننا نعتاد على النظر إلى العالم بطريقة معيّنة. إن كونك مولوداً في مجتمع مقسّم إلى طوائف، لكلٍّ منها مسارها الخاص وتاريخها، سيؤدي إلى ظهور عادات معيّنة في التفكير، وكونك تعيش أحداثاً عنيفة، يؤثر أيضاً على الطريقة التي تنظر بها. لا يسعني أن أقول بالضبط: كيف أثّرت ولادتي في لبنان على رؤيتي، ولكنني متأكد من أنها قد أثرتْ عليها.
* اللغة علامة حضارية حقيقية. كيف نحافظ عليها حرّة، وما هي الصورة الرمز التي تضمن هذه الحرية؟ 
** هناك عاملان يلعبان دوراً: اللغة كوسيلة للتعبير -وهنا المصطلح يمكن استخدامه بمعانٍ مختلفة جداً- وهناك لغة أكثر تحديداً. لقد نشأتُ في مجتمع كانت فيه دائماً عدّة لغات. فكوني تحدّثتُ لغاتٍ مختلفة منذ الطفولة فقد أثّر ذلك أيضاً على رؤيتي، وعلى طريقة التعبير عن نفسي. لقد نشأتُ في بيئة تتحدّث العربية والإنجليزية والفرنسية. تلقّتْ عائلةُ والدي تعليمَها في مدارس اللغة الإنجليزية، وعائلةُ أمي في مدارس اللغة الفرنسية، وكانت اللغة المشتركة، لغة المنزل، والبلد هي العربية. وبالإضافة إلى ذلك، هناك لغتان أخريان في اللغة العربية: هناك اللغة الكلاسيكية، وهناك اللغة المنطوقة المختلفة تماماً، ناهيك عن اللهجات المختلفة، لأننا في عائلتي، من جانب أمي، نتحدث اللهجة المصرية، ومن جهة والدي اللهجة اللبنانية. وهنا أيضاً هناك اختلافات. أعتقد أنّ كل هذا يمكن أن يشكل إثراء حقيقياً، وقد خبِرتُ وعشتُ تعدّدَ اللغات هذا بهدوء. لم أشعر إلا بقليل من التوتر. هناك دول يوجد فيها توتر بين اللغات. ليس هذا هو الحال في لبنان. في لبنان، هناك موقف براغماتي وهادئ إلى حد ما، تجاه اللغات.
* تستشهدُ بالعديد من القصائد في عملك. ما هو مكان الشعر في حياتك؟
** الشعرُ حاضرٌ في حياتي. تاريخياً، كان في عائلتي الكثير من الشعراء. كان والدي شاعراً، وكان ينشر مجموعات من القصائد، ودُرِّستْ بعضُ قصائده في المدارس. كان من دواعي سروري وجودُ قصائد والدي في كتابي المدرسي، كان ذلك إذن من دواعي فخرنا.
لستُ أملك هذه الموهبة: لقد كتبتُ القليلَ جداً من القصائد. ولكنني كنت دائماً أقرأ الكثير من الشعر، وقد راودتني الرغبة أحياناً في أن أقتبس، خاصة في بداية جزء من الكتاب، بضعَ أبيات لشاعر تبدو لي مناسبة لتلخيص موضوع هذا الجزء. الاقتباسُ الأوّل في هذا الكتاب لشاعرٍ يوناني من الإسكندرية. وهناك شاعرة روسية. وهناك شاعر أميركي شاب سنحت لي الفرصة للتعرّف عليه. أعتقد أننا بحاجة إلى وجود الشعر في الحياة، في وقت فقدَ الشعرُ مكانتَه بعض الشيء في الفضاء العام. في الماضي، كان الشعراء شخصيات عظيمة في المجتمع. لم يعد هذا هو الحال اليوم للأسف. 
* أنت تستشهد بقصة «الجندب والنملة» و«الأخلاق العامة» التي تتناولها هذه الحكاية للافونتين. هل هذه القيم لا تزال ضرورية للمجتمع؟
** القيم ضرورية.. أعتقد أنّ ما يؤسّس المجتمع حقاً هي القيم. وبالنسبة للجندب والنملة، ففي نص القاص الفرنسي لافونتين، تبدو القيم التي كان يمتدحها ويشيد بها في هذه الحكاية، قِيماً شمولية. صرنا اليوم نودّ أن تكون القيم كذلك، ولكنها في الواقع لم تعد كذلك. لستُ متأكداً من أنني أنخرط في عالم صارت القيم فيه منعكسة تماماً على هذا النحو، ولكنْ كوني واقعياً فإني ألاحظ وأعيش معها.

  • غلاف كتاب «غرق الحضارات»

* يُلقِي كتابُك نظرةً متشائمة على حالة العالم، والذي تُفْرَج نهايتُه عن بصيصٍ من الأمل، فيما يتصل بقدرة الإنسان على الوعي. ما هي مسؤولية الأفراد العاديين لتجنب «غرق السفينة»؟
 ** لا أشعر بأنّ كتابي ينشر التشاؤم. أعتقد أنني رغبتُ في أن أكون واضحاً. ظني أنّ الأمور اليوم خطيرة للغاية، بحيث لا ينبغي لنا إخفاء الحقيقة. يجب أن نقيم معاينةً دقيقة، ومن هناك أن نبحث عن حلول. أعتقد أنّ هناك حلولاً. وما ينقصها هو الوعي والإرادة لذلك. وبالتالي فإن دور الكاتِب هو أن يقول ما هو الخطأ، وأن يشجع معاصريه على التفاعل، وعلى إحداث القفزة إلى الأمام.

* كيف يمكن أن يتطور البحث عن الهُوية إلى مطالبة بالهوية، خاصة في أوروبا اليوم؟
** الهُوية سؤال صعب. يحتاج كل فردٍ للهُوية، وفي الوقت نفسه غالباً ما تنزلق الحاجة إلى الهُوية إلى شيء آخر. لو كان الأمر بحاجة إلى دليل لتمييز المواقف، فسأقول إنه منذ اللحظة التي يهدف فيها تأكيد الهُوية إلى ازدهار الثقافة، فهو أمر مشروع. ولكن ما إن تهدف الهُوية إلى محاربة ثقافة أخرى، لإقصاء ثقافة أخرى، فإنها تصبح خطيرة. وفي السنوات القليلة الماضية، شاهدتُ ظواهر من هذا النوع، حيث كانت هناك مطالبات مشروعة تماماً، من أشخاص شعروا بأن ثقافاتهم لم تؤخذ في الاعتبار بشكل كافٍ، ثم في مرحلة ما، انجرف هذا الادعاء، وأصبح هو نفسه مستبِدّاً، وسعى إلى إقصاء الآخرين. أعتقد أن علينا الحفاظ على التوازن في المطالبة بالهُوية.

* كيف يمكن للتكنولوجيا، التي من المفترض أن تكون محرِّرة للإنسان، أن تصنع في الغرب أفراد مجتمع أصبحوا «سجناء أحراراً تحت المراقبة»؟
** أعتقد أن التكنولوجيا محايدة أخلاقياً. الأمر متروك لنا لتحقيق هذا الجزء من التطور. فالتكنولوجيا تأتي إلينا بطريق استعمال تقني، ولكن من دون دليل أخلاقي. والأمر متروك لنا لإيجاد الدليل الأخلاقي لاستعمالها، ولمعرفة المكان المناسب لأي تقنية جديدة في حياتنا، وفي حياة مجتمعاتنا. 
* في الختام، الكاتب أمين معلوف، كيف تُعرّف كتابَك: مقال في الجغرافيا السياسية، سيرة ذاتية، أم كُتيِّب شعري موجَّه إلى معاصريك؟
** أودّ أن أقول إنه تأمّلٌ يبدأ على نمطٍ حميمي، ويتّسع قليلاً مع مرور الوقت. إنه كتابُ شخصٍ يصل إلى خريف حياته، ولا يزال يعشق الحياة، ومع ذلك يسأل نفسه عن زمانه، وعن تجاوزات عصره. هذا ليس كتاباً كنت سأكتبه في العشرين من عمري!

انجراف الهُويات
وسألنا أمين معلوف: كيف تطورت عناصر القوة منذ 1979 برأيك؟ فقال: هذا تاريخ أتحدّث عنه في كتابي، وهو تاريخ أراه مهمّاً. منذ عام 1979 شهدنا انجرافاً في مسألة الهُويات أقوى مما كان عليه الأمر في أوقات أخرى من التاريخ، وفي الوقت نفسه حدث تحوُّلٌ في طريقة الحُكم. وقد شكّل هذان التحوّلان العالَمَ الذي نجد أنفسنا فيه اليوم: عالمٌ تبدو فيه الهُويات مطلقة العنان تماماً، بحيث لم يعد بإمكاننا السيطرة عليها، وإيقافها. وفي الوقت نفسه، لدينا نمط حُكم، في أماكن عديدة عبر الكرة الأرضية، يُشعِر قطاعات كبيرة من السكان، بالتهميش، وأنه لم يعد لهم مكانٌ في هذا العالم. وأعتقد أنّ كل هذا الوضع يستمد أصوله منذ حوالي 40 عاماً مضت، إلى حدود عام 1979. 
ونصل اليوم إلى النقطة التي نحتاج فيها إلى التساؤل: هل سنستمرّ في هذا الاتجاه؟ أم أننا سنحاول تغيير الموقف حيال مسألة الهُويات؟ وكذلك، فيما يتعلق بطريقة الحُكم؟ ظني أنّ هذه الأسئلة تطرح نفسَها بحدّة اليوم.

المصدر:
https:/‏‏‏/‏‏‏www.lirelasociete.com/‏‏‏interview-damin-maalouf