د. المعزّ الوهايبي

يفرض علينا الوضع الرّاهن أن نستأنف التّفكير في بعض البدهيّات، من بينها «المسافة». فبما أنّ البروتوكول الصّحيّ المستجدّ يستدعي «التّباعد الاجتماعيّ» بين الأفراد؛ فلابدّ عندئذ من إثارة مسألة التّماسّ أو اللّمس. ونحسب أنّ طرحها جماليّاً من شأنه أن يخفّف عنّاشعور «الخوف من القرب». ولكن لا مندوحة عن الفكر الفلسفيّ الذي ما فتئ يراجع حاسّة اللّمس مفهوميّاًويستأنف تطارحها بحسب وقْع العصر، حتّى أنّهلم يعد يكتفي بتصنيف اللّمس أولى الحواسّ الخمس، بل بلغ إلى تنزيله أساساً لما يسمّيه الفرنسيّ جان ليك-نانسي Jean-Luc Nancy «الأنطولوجيا الاجتماعيّة». ولئن بدا أنّنا نحتاج، اليوم، إلى إعادة تدبّر ما تمليه «مسافة» العلاقة بالآخر، فإنّنا نقدّر أنّ ما فوجئنا به من تعذّر للّمس أو من ظهور للّمسة العالقة بين الأشخاص هو ما يسوّغ، من أجل التّخفيف من غرابة اللّمسة التي أضحت عالقة بين الأشخاص، أن نعيد تمرير اليد الإنسانيّة على محكّ الفلسفة والفنّ.
صحيح أنّ اللّمس، كما تفسّر الأوكرانيّة فاليريا غافريلنكو Valeria Gavrylenko، لا ينفصل عن الجلد بما هو أيضاً عضو، فعبر البشرة تتأتّى إحساسات اللّمس من تفحّص لنوعيّة الأنسجة، ومن اختبار للحرارة والبرودة، وحتّى من اجتراح للانفعالات (ألم، شهوانيّة..)؛ ولكن تظلّ اليد، حصراً، الشّعار الذي لا غنى عنه عند اللّمس، بدءاً بالمداعبة ودلالاتها، وصولاً إلى المصافحة ورمزيّتها. فالمصافحة، كما يقول نانسي «ليست مرْس يد بيد ولا هي صفق كفّ بكفّ، وإنّما هي فكْر بتمامه». وهو فكر لا يذيب الذّوات بعضها في بعض، وإنّما يعزّز الاستغيار (empathy) المتوازن بينها من حيث هو قدرة على استشعار انفعالات الغير وحالاته الباطنيّة، ومن حيث هو قدرة على الحلول محلّ الغير، دون إزاحته طبعاً؛ بمعنى الولوج إلى عالم الغير عن طريق ملامسته. 
والواقع أنّ هذه الطّريقة في الاستغيار عبر اللّمس مزدوجة، ذلك أنّ اللّمس بما هو إقامة علاقة مباشرة مع الآخر من خلال جسده، هو مجال تجربة مثاليّة لفهم شكل الإدراك المتبادل للحالات الباطنيّة التي يصادفها كلّ من الشّريكيْن في اللّمس. لكن دون أن يعني ذلك كونه إبطالاً للمسافة بينهما، وإنّما هو المسافة الدّنيا، ليس إلاّ. ويضاف إلى ذلك أنّ اللّمس ينطوي إذن على طابع مزدَوَج، حيث «من أجل اللّمس، ينبغي أيضاً أن يكون المرء ملموساً»: فمن أجل الإحساس بما ألمس من أشياء ينبغي أن أُحِسّ، أنا نفسي، بما ألمس. فاليد هي ما يسمح في الوقت نفسه بالإحساس، بنعومة الشّيء أو بخشونته مثلاً، وباستيعاب الشّيء نفسه. وبعبارة أخرى، ربّما يكون المطلوب اليوم هو الحديث عن الكوجيتو اللّمسيّ.
ورغم أنّنا لسنا، ها هنا، في مقام المقارنة بين الحواسّ، فإنّه قد يكون من الطّريف استحضار ما يقوله هنري فوسّيون Henri Focillon في (تقريظ اليد): «يقتضي امتلاك العالَم ضرباً من الشمّ اللّمسيّ (flair tactile). فالرّؤية تنزلق على مدى الكون. أمّا اليد فتعرف أنّ الشّيء مسكون بالوزن، أنّه ناعم أو خشن...». وهكذا، فإنّ فلسفة تفضّل اللّمس من شأنها أن تكون فلسفة الولوج إلى العالَم، في حين أنّ فلسفة تفضّل الرّؤية من شأنها أن تكون، إذا استعدنا عبارة موريس ميرلوبونتي، فلسفة للتّحليق «طوافاً فوق العالَم».
على أنّ المفارقة لا تكمن فقط في الانفصال عن الآخر على نحو يضاعف من صعوبة الاستغيار، وإنّما في تعليق العمل بواحدة من الوظائف الأساسيّة لليد حتّى باتت الذّات، في بعض المناسبات، كما لو أنّها منفصلة عن يدها، تماماً كما يقول نانسي عن الانفصال بأنّه «لا يكون دائماً عمّا نلمسه، ولكن أيضاً عمّا نُلْمَس به».
***
ولئن كنّا لا نخال أنّ الوضع الرّاهن سيوصلنا بحكم مقتضيات التّباعد في الحيّز إلى اليوم الذي نحنّ فيه إلى اللّمس. ولكنّنا سنحنّ مع ذلك إلى صيغ من اللّمس مثل المصافحة والمداعبة.. ونظنّ أنّ الفنّ عموماً، والتّشكيل خصوصاً، عينان يمكن أن نطلّ بهما على الملامس المهدّدة بالضّمور. ولكن ربّما جاز القول، ها هنا، بأنّه ينبغي إفراغ العين من كلّ موروث بصريّ حتّى لا يبقى إلاّ إمكان اللّمس. ففي التّشكيل، رسماً ونحتاً، تبتهج اللّمسة على نحو ما تشي بذلك أعمال كثيرة، وبخاصّة ما كان منها معقوداً على عاطفة مشبوبة، أو هي تغتمّ وتنقبض على نحو ما تشهد بذلك الأيدي المتحسّسة للجثث أو جماجم التّشريح. ولمّا كانت هذه الورقة لا تتّسع لاقتفاء آثار اللّمس التي تخلّفها ريشة الفنّان أو منقار النّحّات، فإنّه يمكن الاكتفاء بإطلالة خاطفة على بعض الأعمال التي تحتفي باللّمس داخل اللّوحة أو التي تضطرّ إليها اضطراراً بمقتضى الحال.
 ونظير الاحتفاء اللّمسيّ ما يجري في واحد من الأغراض التّشكيليّة الأليغوريّة الشّهيرة (ربّات النّعم الثلاث). ولنا أنْ ننوّه، تمثيلاً، على ذلك بعمل للفنلندي بيتر ريبنس Rubens. ففيه تتعايش النّعم الثلاث، المجسَّمات في ثلاث نساء يرقصن، في قرب مربك يترجم ماهية اللّمس ضمن نمط أنثويّ حصريّاً. وطريف ما يلاحظه بعض النّقّاد من أنّ الشّوائب ضروريّة في هذا العمل حتّى توفّر الإيهام بكيان من لحم حيّ، فالبدانة الزّائدة توحي بقدْر من الواقعيّة على نحو يستثير الرّغبة في الجسّ، في حين أنّ الرّسم حسب المعهود ينبغي أن يستثير فقط الرّغبة في النّظر.
أمّا نظير الاضطرار اللّمسيّ، فما نصادفه في لوحات دروس التّشريح والتّطبيب، حيث الفنّان وهو يترسّم حركة اليد إذْ مسك المريض، يترسّمها يداً عالمة تفحص وتعالج بحسب ما تمليه ضرورة المعرفة والتّطبيب وليست مجرّد جارحة لواحدة من الحواسّ الخمس تتلمسّ الأشياء في إدراك بِكر ساذَج. ولنا أن نستحضر، ها هنا، «درس الدّكتور تيلب في التّشريح»، لربمبراندت أو لوحته «اللّمس». ففي الأولى يحلّ المشرط وسيطاً لمسيّاً بارداً برودة الجثّة، وفي الثّانية تحنو اليد نابضة في تصادٍ مع دفء البشرة الحيّة بعدُ.
***
ربّما يكون قد حان، إذن، اليوم الذي نعيد فيه قراءة موروثنا الثّقافيّ، لا في صيغته التّشكيليّة البصريّة فحسب، ولكن أيضاً في صيغته الأدبيّة، حيث يحتاج فكّ شفرة اللّمس سرديّاً وشعريّاً إعادة قراءة صور العلاقات العاطفيّة الاجتماعيّة، بما في ذلك بعض ما قد ينضوي إلى دائرة «المقدَّس»، وفي صيغته العلميّة حيث ضرورة التّأهيل الموصول لعلم الاحتكاكيّة tribologie، وعلم اللّمسيّة esthésiologie؛ فضلاً عن صيغته الفلسفيّة.