عبد السلام بنعبد العالي
تبدو الفلسفة الرواقية، التي تعلِّمنا التمييز بين ما يتوقف علينا، وما لا يتوقف، فلسفة الكوارث والأهوال بامتياز. لا يَصدُق هذا الأمر على ما مضى من الأزمان فحسب، بل الظاهر أن تأثير فلسفة الرواق يمتدّ حتى زماننا أيضاً. ربما لهذا السبب، وبفعل الجائحة التي تحل بعالم اليوم، وحسبما أكدته إحدى الأسبوعيات، فإن مبيعات كتاب الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس ارتفعت بنسبة 28% خلال الفصل الأول من السنة الحالية، كما أن خطابات سينيكا إلى لوسيليوس قد عرفت تداولاً مفرطاً عبر الفضاء الرقمي. وإذا صدقنا ما روته إحدى الصحف الفرنسية بداية شهر أكتوبر، فإن «خواطر» الإمبراطور الرواقي لم تغادر مكتب وزير الصحة الفرنسي منذ إعلان انتشار الفيروس.
الطاقة الإيجابية
قد يقال إن الرواقية المعنيّة هنا، ليست تلك التي ألهمت مفكرين كباراً أمثال مونيتيني وديكارت وباسكال أو نيتشه، وإنما تلك التي تستهوي الكتابات المخصّصة للبحث عن مزيد من «الطاقة الإيجابية» تنميةً للشخصية وترويضاً للجسد. وما يهمّ تلك الكتابات من مذهب أصحاب الرواق، ليس فهمه لمنزلة الإنسان في الكون، ولا تقبّله لكل ما يجري، وإنما «صناعة» حال «راحة البال» و«العيش المريح»، تلك «الصناعة» التي تنشُد مصالحة الفرد مع نفسه، وتفتح شخصيته، وتزوّده بما من شأنه أن يعيد إليه توازنه في عالم لا يعرف فيه إلى أين يتوجه.
وفي المذهب الرواقي كثير من هذه المعاني. فالرواقية تنطلق من كون الفرد لا يجد العون إلا في ذاته، فعليه، مهما كانت الظروف، ألا يعوّل إلا على نفسه، وألاّ يجعل سعادته بالتالي تتوقف إلا على «ما بيده». ومن المأثور عن ذلك الإمبراطور الفيلسوف قوله: «أرغبُ في الحصول على القوة لتحمّل ما لا يمكن تغييره، والجرأة لتغيير ما يمكنه أن يتغيّر، مثلما أبتغي الحكمة لتمييز أحدهما عن الآخر». فالشّرور الخارجية تجد علاجها في دواخلنا. وعندما ننظر إلى الكون ككوسموس، أي كانتظام يحتل فيه كل كائن مكانته الطبيعية، يغدو دورنا هو أن نبحث عن مكاننا فننفصل عن صمت الفضاء اللانهائي الذي أرعب باسكال والذي أقرته الكوسمولوجيا الحديثة، كي نخلد إلى كوسمولوجيا تسودها المحدودية والانتظام والتناغم.
صحيح أنها ليست، وما عاد يمكن أن تكون كوسمولوجيتنا نحن. إذ حينما كان الرواقي يشعر بمكانته في العالم، عندما كان يشعر بانتمائه لكلٍّ عظيمٍ لا يشكل هو إلا عنصراً صغيراً منه، فذلك كان ضمن عالم متناغم محدود يحتل فيه كل كائن «مكانه الطبيعي». وما يتبقَّى هو أن نتقبل ما هو كائن. وهذا يتوقف أساساً على ما نُصدره من أحكام على ما يجري. إذ إن مصدر الشرور ليس خارجنا وإنما في أحكامنا حولها، «فإذا عانيتَ من علة خارجية، كما يقول ماركوس أوريليوس، فليس لأنها هي التي نزلت عليك، وإنما هو الحكم الذي تصدره بصددها». فما يتوقف علينا هي آراؤنا: «كل شيء يتوقف على الرأي، والرأي يتوقف عليك». وما عليك إلا التحكّم في أحكامك لكي ترقى إلى «الطمأنينة». فحينئذ لن تغدو الفواجع والكوارث شروراً في ذاتها، وإنما في أحكامنا التي نصدرها حولها. ومن مأثورات ذلك الفيلسوف الإمبراطور التي قد تجذب أيضاً الباحثين عن «طاقة إيجابية» في زمن الجائحة هذا، قوله: «أُطلِقُ اسم الطاعون على فساد العقل، أكثر مما أطلقه على الهواء الموبوء الذي يحيط بنا».
الحياة امتحان
ولا ينبغي أن ننسى أن مفهوم الطاقة مفهوم فيزيائي حديث، حيث نقول عن جسم مثلاً إن له طاقة إن كان باستطاعته أن يبذل قوة. وتكون الطاقة إيجابية إن كان سهم قوتها لا ينعكس على الذات ويتّجه نحوها ليدمرها، وإنما يدفعها نحو الفعالية والمبادرة والارتماء في المستقبل. فالطاقة إذاً طاقة جسم، طاقة جسد. ولذا فإن نحن سلمنا بمسلمات الرواقية، تبيّن لنا أن مذهب الرواق، إن أُخذ بحذافيره، ليس من شأنه أن يقدّم خدمة كبرى لمعاصرينا الذين يبحثون عن هذه «الطاقة الإيجابية». فالرواقية لا تقتصر فحسب على التمييز بين ما يتوقف علينا وما لا يتوقف. فما يرمي إليه مذهب أصحاب الرواق قد يخيّب آمال من لا يتصور الإنسان إلا مشدوداً إلى جسده عالقاً به. والحال أن من يستنجدون بالرواقية من معاصرينا يؤمنون أساساً بطاقة الجسد و«روحانيته». وهم لا يعتبرون الجسد «عدوّاً» ينبغي هزيمته ورغبات يلزم قمعها، وإنما ينظرون إليه على أنه الوجه الآخر لحياتنا الروحية. ولقد كان سنيكا يقول: «الحكيم لا أهواء له». فالرواقية فلسفة تطمح إلى أن تجعل من الحياة محنة وامتحاناً لا يتوقف، وهو امتحان يغدو فيه الجسد برغباته وأهوائه عدوّنا الأكبر. ولا عجب إذاً أن يستصغر إبيكتاتوس، أحد أعمدة المذهب، كل الأهوال فيطلب من محاوره ألا يبدي انفعالاً أمام موت الأقرباء، لأن «الموت من طبيعتهم» ولأن «ما يزعج البشر، ليس الأشياء، وإنما الأحكام التي يصدرونها عليها».
قواعد السلوك
وعلى رغم ذلك، فإن السؤال قد يظل مطروحاً: لماذا هذا الاستنجاد المفرط بفلسفة الرواق كلما حلّت الشدائد؟ لماذا يجد بعضنا، على اختلاف مقاماتهم ومستوياتهم الثقافية، في فلسفة أصحاب الرواق ملاذاً يحميهم من هول المصائب، ويُعينهم على تحمُّل الكوارث والجائحات؟ لا يمكننا أن نقول إن ما يغري هؤلاء في الرواقية فيزيقاها أو ميتافيزيقاها، بل وحتى أخلاقها ومفهومها عن الحكمة، لعل ما يجذبهم إليها هو بعضٌ من قواعد السلوك التي تدرّب صاحبها على أن يتعلم أن يعوّل على نفسه أكثر مما يعوّل على ما هو خارج عنه، وأن يطلب من ذاته أكثر مما يطلبه من غيره، ويدرك أن عدم القدرة على تغيير ما ليس بيده لا يستعاض عنه إلا بتغيير ما باليد.
ليست الرواقية عند من يتعلق بها اليوم، مذهباً متماسكاً ومنظومة متناغمة، وأخلاقاً مستخلصة بكل دقة من مبادئ منطقية وفيزيائية، وإنما هي قواعد للسلوك تكتفي بالتطبيق العملي لتلك المبادئ ولا تُستلهم من تلك المبادئ ذاتها. فكأنّ الأمر لم يعد يتعلق حتى بأخلاق، وإنما بتملك طرق لضبط النفس وتحويل الذات وترويضها. فليست الرواقية عند «رواقيينا» الجدد إذاً منظومة ميتافيزيقية ولا حكمةً وأخلاقاً، وإنما هي «فن للعيش»، وطريقة للانهمام بالذات وترويضها.