إيهاب الملاح (القاهرة)
كان كتابه «المرايا المتجاورة ـ دراسة في نقد طه حسين» أول دراسة شاملة تطبق المنهج البنيوي في نقد النقد العربي. تتلمذ الناقد والأكاديمي القدير جابر عصفور ووزير الثقافة المصري الأسبق على يد سهير القلماوي؛ التي أشرفت على رسالتيه للماجستير والدكتوراه، الأولى عن «الصورة الفنية لدى شعراء عصر الإحياء»، والثانية عن «الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب». وكانت القلماوي بدورها تلميذة مباشرة لطه حسين. وعندما توفي طه حسين في 28 أكتوبر 1973 كان جابر عصفور في طليعة المعيدين الشبان الذين تصدروا المشهد الجنائزي المهيب الذي خرج من جامعة القاهرة لأول مرة في وداع الاسم الأهم والأكبر الذي اقترن بمجد الجامعة والحفاظ على استقلالها وتأسيس تقاليدها العلمية والمعرفية... «الاتحاد» التقت الدكتور جابر عصفور، في ذكرى عميد الأدب العربي، لتحاوره وتستدعي بعضاً من ذكريات الماضي لمساءلة الحاضر...
* سألته: ما الذي يعنيه طه حسين لك وللجامعة وللثقافة المصرية والعربية؟
- يجيب جابر عصفور: لقد حاول طه حسين في الجامعة وبالجامعة أن يسهم في بناء مصر الحديثة، ولذلك كان لابد أن يصطدم بالمؤسسات والقوى التقليدية المحافظة. وكان جسوراً في صدامه، شجاعاً في التعبير عن آرائه وأفكاره التي هي الأساس الفكري للطليعة الثقافية العربية إلى اليوم.
وأنا أستخدم الصفة العربية عامداً؛ لأن طه حسين لم يكن ملكاً للثقافة المصرية وحدها، وإنما كان، ولا يزال، ملكاً للثقافة العربية بأسرها؛ فتأثيره، مثل كتبه وتلامذته، تجاوز الحدود الضيقة لمصر إلى الحدود الواسعة للعالم العربي الذي تفاوت في درجة الحماسة لاستقبال أفكار طه حسين ومبادئه.
* لماذا اخترت طه حسين تحديداً لكتابة بحثك المرجعي الضخم «المرايا المتجاورة» عنه؟
- يصمت قليلاً.. ويجيب دون انقطاع: لا أزال أذكر جيداً يوم كنت متأثراً بالبنيوية، وذهبت إلى أستاذي المرحوم الدكتور عبدالعزيز الأهواني أعرض عليه أطروحة كتاب عن نقد طه حسين، وكنت لاحظت أن كلمة «مرآة» تتكرر كثيراً في كتابات طه حسين، سواء في عناوين الكتب، مثل «مرآة الإسلام» و«مرآة الضمير الحديث»، أو في سياقات الكتابة في كل المجالات. وذهبت إليه مختبراً أطروحتي الأساسية بأنني يمكن أن أعيد بناء هذا الفكر بوساطة «المرآة» بصفتها عنصراً تكوينياً دالاً.. فسألني وكيف تفعل هذا؟ أجبته بقولي: سأقوم بجمع كل الجمل التي ترد فيها كلمة «المرآة» أو يجري التشبيه بها، ثم أصنّف ما قمت بحصره واستقصائه، وأعيد ترتيبه في مجالات دلالية محدودة، وبذلك تكون لدي العناصر التكوينية لفكر طه حسين...
* ذكرتَ لي أكثر من مرة أنه لولا طه حسين، وما كان يمثله لك من رمز ومعنى، ما كنتَ جابر عصفور. ماذا تحمل ذاكرة جابر عصفور عن طه حسين؟
- يصمت قليلاً، يغمغم بصوت بدا واهناً، لكنه يستعيد عنفوانه وحيويته فجأة؛ يقول:
لعلك لاحظت أنني أرصع جدران منزلي منذ المدخل إلى غرفة المكتب بالعديد من الصور واللوحات.. أترك صورة أبي في مدخل البيت، وآخذ طريقي إلى غرفة المكتب، وأدخلها، فتطالعني صورة طه حسين، هي أجمل لوحة فنية له في تقديري، التقطها له رسام فرنسي كان مشهوراً في وقته، وكان نابغة في فنه، تلاعب فيها بعلاقة الضوء بالظل، فأخرج لوحة فوتوغرافية بحثت عنها كثيراً حتى وجدتها، وذهبت إلى مصوِّر شهير، صنع لي أكثر من صورة منها، أضع واحدة في غرفة مكتبي بالمنزل، والثانية في غرفة مكتبي بالعمل، أحرص على أن أضعها في مواجهتي، وأنا جالس إلى مكتبي، وكلما استعصى عليّ أمر، تطلعت إليها كي أستمد العزم والإرادة.
ويواصل قائلاً:
أذكر جيداً أنني عندما خرجت من الجامعة، مطروداً، نتيجة قرارات السادات في سبتمبر 1981، وقفت أمام الصورة الموجودة في مكتبي في المنزل، فابتسمت ساخراً من قرار الطرد، وتذكرت أن طه حسين طرد من الجامعة في عهد إسماعيل صدقي، وظلّ خارج الجامعة من سنة 1932 إلى 1935 إلى أن سقطت وزارة صدقي وجاءت وزارة نسيم التي أعادته إلى الجامعة، محمولاً على أعناق طلابه، لم أبق كل هذه السنوات خارج الجامعة، فقد اغتال السادات حلفاؤه من الجماعات الإسلامية بعد شهر، وعقد حسني مبارك مصالحة وطنية، وبعد أشهر أعادنا إلى الجامعة، وكنت في السويد، وبعد انتهاء عملي أستاذاً زائراً في جامعة استوكهولم، عدتُ إلى الجامعة غير محمول على أعناق طلابي، فقد كنت أستاذاً من غمار الأساتذة.