إميل أمين
ميدان التحرير، ذاك الذي أراد البعض قبل تسعة أعوام اختطاف مصر من خلاله وتحويله إلى بقعة ظلامية، أصبح متحفاً عالمياً مفتوحاً بأضواء باهرة، بعد خطة تجديد وتطوير عصرية اشتملت على كل المنطقة المحيطة به. رمزية ميدان التحرير، أو ميدان الإسماعيلية، وربما ميدان أنور السادات، وهي كلها أسماء لبقعة واحدة في قلب قاهرة المعز، تتجاوز الماضي بآلامه، وتنقلنا إلى مصر الأمل والعمل، مصر المتصالحة مع نفسها، من زمن رمسيس الثاني ومسلته الرائعة في قلب الميدان، إلى زمن عبد الفتاح السيسي وقدرته على استرجاع السبيكة الاجتماعية الوطنية المصرية، لتضحى الدرع الحامية لمصر والمصريين من مؤامرات الخارجين.
لا يمكن للمرء أن يفهم فلسفة ميدان التحرير وتصميمه إلا بالرجوع إلى زمن مصر الخديوية، وأحلام تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا. لقد آمن الخديوي إسماعيل (1830-1895م) بأن مستقبل مصر في حالة المثاقفة التاريخية مع أوروبا عامة، وفرنسا وإيطاليا على نحو خاص، ولهذا فإن عشاق القاهرة الخديوية يعلمون أنها نسخة مطابقة من قلب عاصمة النور والجمال، باريس.
كلف إسماعيل المهندس الفرنسي الشهير «بارييه دي شامب»، ببلورة رؤيته في تلك الرقعة من القاهرة، وكان المولد الأول للميدان الذي أطلق عليه «ميدان الإسماعيلية»، نسبةً إلى صاحب الفكرة عام 1865، ما يعني أننا نتحدث عن ميدان عمره الآن 135 عاماً.
الشاهد أن أحجار الميدان لو تكلمت لنطقت بأحداث جسام جرت بها المقادير على أرضه، كلها كان منطلقها السعي في طريق التحرر من قبضة المحتل.. هل من أمثلة؟
حين أراد الجنرال المصري أحمد عرابي التحرر من الأسرة العلوية، والخروج ضد الخديوي توفيق عام 1881، وقبل أن يستعين الأخير بالقوات البريطانية، كان ميدان التحرير نقطة تجمع لأنصاره ومحوراً لمحبيه.
في ميدان الإسماعيلية تجمهر جنود عرابي الذين مضوا معه إلى قصر عابدين، والذي لا يبعد عن الميدان سوى بضع مئات من الأمتار، ليرفع عرابي صوته: «لقد ولدتنا أمهاتنا أحراراً».
النضال المصري المقرون بالميدان عينه، تجلى في لحظات وطنية من عينة اعتراض المصريين على نفي زعيم الأمة سعد زغلول عام 1919 خارج البلاد، وتجمهرهم هناك من أجل عودة سعد باشا.
رويداً رويداً، كان تأثير الخديوي إسماعيل يبهت وحضوره يأفل في الميدان، ليكتسب سمة رمزية من الحرية، لا تلبث أن تواكب زمن التحرر من الاستعمار البريطاني مع حلول ثورة 1952، وليطابق الاسم الجديد الزمن المستجد.. إنه ميدان التحرير.
ثلاث مرات في نصف القرن الفائت كان الميدان قبلة أنظار العالم: الأولى: في يونيو 1967، حين أعلن الرئيس عبدالناصر عن تنحيه عن السلطة في الخطاب المشهور، ويومها خرجت الجماهير لتطالبه بالعدول عن هذا القرار، وساعتها كان التحرير الموقع والموضع.
الثانية: في يناير 1972، حين تظاهر طلاب الجامعات المطالبون بإعلان الحرب على إسرائيل، وفي أكتوبر 1974 تجمهروا من جديد، احتفالاً بالعبور العظيم والنصر الكبير.
الثالثة: في 30 يونيو 2013، حين امتلأ الميدان بمئات الآلاف الموصولة، ضمن طوفان بشري، مع بقية تفرعات الميدان في اتجاهات القاهرة كافة، والحناجر تعلو بهتاف واحد: «يسقط يسقط حكم المرشد».
تعلن مصر اليوم ميدان التحرير متحفاً في الفضاء الطلق يصل الحاضر بالماضي بمسلة رمسيس، وكباش الأقصر الشهيرة.
تنتصب مسلة رمسيس الثاني والتي تم ترميمها مؤخراً، وسط الميدان وقد تم نقلها من منطقة صان الحجر الأثرية في محافظة الشرقية، وتحيط بالمسلة أربعة تماثيل، لها رأس كبش وجسد أسد، وتعد رمز «آمون» عند الفراعنة.