الفن هو عنصر الاتصال بين الداخل والخارج، الداخل يمثل ذات الفنان المتمثلة في النواة السوداء، هذه النواة واسعة، ومظلمة، تحوي في داخلها الكثير من الغموض حتى عن الشخص ذاته، بينما الخارج يمثل الإسقاطات التي تعرض لها الفنان في حياته، وهذا الاتصال يكون على هيئة منتج فني.
المنتج يكون في مرحلة الفطام، وهي مرحلة صعبة على الفنان التشكيلي؛ فهو يقوم بفصل المنتج الذي التصق به مدة طويلة من الزمن، وحان الوقت للانفصال والاعتماد على الذات. في البداية، يصارع المنتج ويرفض الانفصال عن الفنان، ولكن ما هي إلا فتره قصيرة حتى يجد المنتج الاستقلالية، فهو يرضع من فكر المشاهد، ويتلذذ من خلال الدهشة والإعجاب التي يبديها المشاهد لحظة انفصال المنتج عن الفنان والتحليق وسط قاعة العرض.
ما الذي حدث بالضبط قبل ولادة المنتج وفطامه؟
إن المنتج أداة اتصال تشكلت أثناء اجتماع الذات الداخلية للفنان مع الإسقاطات الخارجية، وحينها بدأ ينمو داخل فكر الفنان، وبعد أن ينضج تتشكل خلايا المنتج من عناصر تحيط بالفنان التشكيلي، ويرضع المنتج من صدر الفنان التشكيلي حتى سن الفطام، بعدها يتحول من أداة اتصال إلى طفل ينمو في المجتمع الخارجي، ليشكل مستقبل الأرض التي ينتمي لها المنتج.
فن الصدأ
التقيت بهذا الطفل في جمعية المعلمين، وهي جمعية نشأت عام 1980، ضمن جلسة فنجان قهوة التي تنظمها شريفة موسى رئيس مجلس الإدارة، هذا الطفل/ المنتج كان والده الفنان محمد الأستاد، أما الطفل فهو فن دانات الشواطئ، وأما الفن فهو عبارة عن حفرة يحفرها محمد الأستاد أمام الشاطئ، ويدفن فيها القماش وبرادة الحديد، حيث يسقط على قطعة القماش شبكة حديد، ويتركها فترة زمنية قصيرة تحت الرمال تتلاعب بها كما تشاء.. ولكن لماذا برادة الحديد؟
سؤال يجيب عنه محمد الأستاد، الذي جذبه مشهد صنبور الماء وقد أكله الصدأ، ونزلت منه قطرات الصدأ لتشكل لوحة فنية، جرب الزعفران لكنه يختفي ولا يحدث الأثر نفسه فاكتفى بالصدأ، وهو الآن يبحث عن مادة أخرى قد تكون النيل. حدثنا محمد الأستاد يومها عن بداية نشوء الفكرة، وكيف انطلقت شرارة دانات الشواطئ، وذلك بعد أن رفع بصره للأعلى وهو في رحلة صيد بحرية، ورأت عيناه منظر الماء والمواد العالقة، فقام بأخذها جاهزه لأرض المعارض، وبدأ المشاهدون بمدح اللوحة، لكنه كان يضحك من الداخل، كيف للمشاهد أن يعجب بلوحة جاهزة كونتها الطبيعة ولم تحتج إلى جهد؟ لم يكن مدركاً أن الطبيعة أحبته، فأرادت أن تهديه شيئاً من ثوبها المرقع، لكنه مزق هذا الثوب وأعاد بناءه، مدخلاً عناصر هو وحده كان يؤمن بها.
مربعات وأحلام
تعامل محمد الأستاد مع المدرسة التعبيرية التجريدية والسوريالية، تمثلت المدرسة التعبيرية التجريدية من خلال المربعات وحركة الرمال.. بينما السوريالية تجسدت في أحلام محمد الأستاد المرسومة على قطعة القماش؛ ذلك أنه يتدخل - أحياناً - في العناصر الطبيعية، والسبب وراء دمجه التعبيرية التجريدية والسريالية نابع عن تجربته الشخصية القاسية، والإحباطات غير المتوقعة، والتي كانت على شكل دائرتين مغلقتين، أغلقت أمامه حلمه في دراسة الفنون خارج الدولة، هاتان الدائرتان تتمثلان في عدد 55، وهي النسبة التي حصل عليها في «الثانوية العامة»، لكنه استطاع تحطيم هاتين الدائرتين من خلال أستاذه محمد عزيز الخاني، الذي بنى له جسر الثقة، ومكنه من مواصلة رحلة الصراع، حتى رفع راية النجاح بتخرجه في الجامعة الأميركية بواشنطن دي سي بمعدل جيد جداً.
الجميل في مسيرته الفنية، دور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فله اليد البيضاء في نجاح كل فرد في هذا الوطن المعطاء وليس محمد الأستاد فقط.
سردي لقصة محمد الأستاد يشرح سبب اختياره لموقع الشاطئ في عمله دانات الشواطئ؛ فهو مكان فيه رائحة الماضي المتمثلة في جده ووالده، بينما رفضه للعمل الجاهز بسبب الإسقاطات التي تعرض لها في مسيرته الفنية وأحدثت خدوشاً، فهو يجد المتعة في الحفر والدفن -وإن تدخلت الطبيعة- ذلك أنه يعزف معها على سطح القماش من خلال لمسات بسيطة، مستعيناً بالمدرسة التعبيرية التجريدية، التي تعمل من خلال الطبيعة على فصل الأشكال عن الصور الموجودة داخل فكر محمد الأستاد، إنه يحدث الطبيعة لكي لا تبوح للمشاهد عن الصور الواقعية التي عاشها، وإنما تنقل للمشاهد لحظة تحرر الواقع من الخطوط إلى اللون، والحقيقة أن التعبيرية التجريدية تنقسم إلى قسمين: الحركي، ورسم المساحات اللونية، وقد تعامل الأستاد مع كلتيهما: الحركي عبر تحرك الرمال على القماش وإحداث تأثيرات بارزة على القماش، بينما برادة الحديد تمثل المساحات اللونية التي ترسم على القماش.
لم يستبعد محمد الأستاد الواقعية في فن دانات الشواطئ، بل وجهها نحو الفوق واقعية، والتي نسميها بالمدرسة السريالية، التي تعبر عن العقل الباطن اللاواعي، أو ما نسميه الأحلام، فقد تمكن محمد الأستاد من دمج التعبيرية التجريدية والسريالية، وهذا لا يحدث إلا عند الأشخاص المتمكنين من الفن.