نسعى – أحياناً – إلى رصد التناقضات على المستوى الاجتماعي والثقافي: كالتشيؤ، والتقنية والصناعة الثقافية، ومثل هذه التناقضات هي التي ستحدد فيزيونومية الفن إلى حد بعيد، وهنا سنرصد أثر مدرسة فرانكفورت والحداثة على فيزيونومية الفن.
تتسم فلسفة «مدرسة فرانكفورت» في الفن ونظريته في الجمال بفرادتها في ملامسة إشكالية الفن، من حيث اهتزاز مسلماته وارتجاج بديهياته، واستطاعت إعادة الاعتبار للفن، من حيث قدرته على تدمير المنطق الحسابي والأداتي (من أداة) للعقلانية الحديثة، ومن حيث قوته الداخلية على التحرر من الحضارة القمعية، فالفن مفهوم فلسفي وممارسة ثقافية وشكل إستطيقي وجمالي، ولكن على نحو يجعله حاضناً للرفض، ومنطوياً على قوة النفي، وحافظاً للأوتوبيا، وناقداً للمجتمع الاستهلاكي التحكمي، ومقاوماً للتسليع الثقافي والتشيؤ، وكاشفاً لصناعة الوهم.

إن الاتجاه الذي انتهجته مدرسة فرانكفورت يفسر، إلى حد كبير، تراجع الأمل في التغيير على مستوى الممارسة، وتكثيف التقويض الفلسفي والإستطيقي لفكر الهوية والتطابق الذي يمثل الخلفية الفلسفية للحداثة الأداتيَّة، فالهيمنة اللامحدودة والمطلقة للعقلنة الأداتية، لا يمكن صدها سوى بحداثة لا مشروطة، تقويضية، وهي تتجسد في جنوح الفن الحديث إلى القبيح والمنفر؛ من أجل تقويض الانسجام الزائف للعقلنة الأداتية. ولم يأت ذلك حباً في التمييز، ولا جرياً وراء منطق الاستقلالية، ولا إقصاءً فوضوياً لما هو معرفي وأخلاقي، بل يتجه من خلال ذلك إلى الحق والعدل. 

الجزء والشذر
بعد انهيار وأفول المعنى، أو ما تسميه مدرسة فرانكفورت بكارثة المعنى، نجدها أعلنت الثورة على الثقافة التي أمست «شهادة على الهمجية»، فالتاريخ ما هو في الحقيقة سوى أشلاء وشظايا وشذرات تشهد على زيف فلسفة التطابق، وكان الفن، ولم يزل، يتوق إلى الكلية، ولكن نجدها ملغومة بالتعدد، ونجد الوحدة مهددة بالانفجار الداخلي.
شمس عمودية.. لا حياة ولا موت 
حول المكان.. جفاف كرائحة الضوء 
في القمح.. لا ماء في البئر والقلب
فلا مصداقية للكلية، سوى بتحققها في الجزء والشذرة، فالشذرة تتطلب تكثيف الفكر، والشكل الجذري يحطم الحدود بين الفلسفة والفن. والكتابة الشذرية بما تحمله من تحريض أسلوبي، هي كتابة صادمة، بالمعنى الثقافي والأخلاقي، وما يمنح للشذرة قوتها الصادمة، هو قصرها وضآلتها بالنسبة للأسلوب الاستدلالي المعتمد على الإسهاب والاستفاضة. 
يا صخرة صلى عليها والدي
لتصون ثائر 
أنا لن أبيعك باللآلئ 
أنا لن أسافر 
لن أسافر
إن تكثيف الأسلوب الشذري يجعله غير قابل للتلخيص، فتأخذ الشذرة دفعة واحدة، وهي بمثابة النقش على الجواهر من حيث تكثيفها وتركيزها، ومن حيث إيجازها واقتضابها، مما يجعل كل محاولة لتلخيصها يائسة ومستحيلة، فكيف يمكن تلخيص ما هو مقتضب وموجز سلفاً، وكيف يمكن تجزيء وتقسيم ما هو مجزأ ومنقسم بدءاً، وكيف يمكن حل ما هو مكثف!

أفول المعنى
من أهم معطيات «مدرسة فرانكفورت» ــ وإستطيقا الحداثة ــ أفول المعنى، وتلبسها بلباس العبث، فالغموض الذي يكتنف العبث واللامعنى لا ينفصل عن الغموض الذي يكتنف الحداثة نفسها، وتفسرها المدرسة احتجاجاً على عالم الحداثة التقنية، (الحداثة باعتبارها كتابة مرموزة تتمثل في صورة الانهيار والأفول)، ومن هذا المنطلق، فإن مدرسة فرانكفورت تنفي مفهوم الرمزية في الفن، لأن الرمز يحتفظ بعلاقة ما مع الواقع، بينما الفنية الجذرية تقطع كل صلة بالواقع، فالحداثة الفنية الحقة هي تلك التي تعمل على نسيان الرموز لما ترمز إليه، وعلى التحرر من وظيفتها الرمزية.
سهل وصعب خروج الحمام من الحائط اللغوي، فكيف سنمضي 
إلى ساحة البرتقال الصغيرة؟ 
سهل وصعب دخول الحمام إلى الحائط اللغوي، فكيف سنبقى 
أما القصيدة في القبو؟ صحراء صحراء
تكمن القيمة الإستطيقية لأفول المعنى في الاحتجاج على التقهقر الكوني الذي تسير نحوه الحداثة الأداتية، ويمثل في العمق احتجاجاً أكثر جذرية على الفن الملتزم والمسيس، وإن عرض التقهقر والارتكاس الكوني من غير احتجاج، لهو في الواقع احتجاج على وضعية عالم خاضع لقانون الانحطاط والارتكاس، وإن الفن الحديث احتجاجي في طريقة عرضه العبثي، حتى من دون أن يتبنى موقفاً، أو يلتزم بقضية. ومهمة إماطة اللثام عن لاعقلانية العقلنة الأداتية المنوطة بالفن الحديث، تمر عبر استثمار مكثف لمقولة أفول المعنى لخرق ما تحظر العقلنة رؤيته وفضح ما توهم به.
 ابتعدنا واقتربنا وابتعدنا 
يا أهالي الكهف قوموا واصلبوني من جديد
إنني آت من الموت الذي يأتي غداً 
آت من الشجر البعيد
فتشت عن نفسي، فأرجعني السؤال
 إلى الوراء 
لا شيء يأخذني إلى شيء 
وينسدل الفضاء على مشنقة 
ويندس المدى في ثقب إبرة عاشقة 
فتشت عن نفسي، سلام للذين أحبهم 
عبثاً، سلام للذين يضيئهم 
جرحي هواء للهواء، وأين نفسي 
بين ما يسطو على نفسي 
ويرفعها رخاما للهباء
إن العبث، أو أفول المعنى، علامة مميزة للحداثة الفنية، وغيابه رد فعل مناسب على العقلنة الأداتية، وهو ما يفسر قصدية هذا الغياب، الذي توجهه نية مبيتة، من أجل تبني عبثية جذرية، وتسجيلها في لغة فنية مفرغة من المعنى. 
الشرط الحداثي يحكم على الفن بالتخلي عن أصوله الطقوسية، ويهدده في الوقت نفسه بالانصهار في أوهام الحداثة، ونجد كذلك التوشح برداء السواد وهو، من وجهة نظر المضمون، من أعمق اتجاهات التجريد، وما دام الواقع مشمولاً بالتشيؤ إلى هذه الدرجة، فلا يمكن للفن أن يكون متسقاً مع ذاته، سوى أن يتلبس بلبوس القتامة والسواد، قصد نفي كل ما يشكل مواساة زائفة، وكذلك مقاومة كل ما من شأنه أن يخالط المتعة المبتذلة.