عاطف عبدالله (أبوظبي) 

سرعت بنوك مركزية عالمية وتيرة تشديد السياسة النقدية، في معركتها ضد التضخم الجامح، برفع نسب الفائدة، وهو إجراء ضروري، رغم تحذير محللين من آثاره الجانبية المحتملة وأبرزها دفع الاقتصادات إلى الركود.
ففي منتصف الشهر الجاري، أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي الأميركي) عن أكبر زيادة في أسعار الفائدة منذ نحو ثلاثة عقود، بمقدار ثلاثة أرباع نقطة مئوية إلى %1.75. 
 بينما رفعها بنك إنجلترا المركزي للمرة الخامسة على التوالي، زاد البنك المركزي البرازيلي سعر الفائدة القياسي للمرة الحادية عشرة على التوالي. أما البنك المركزي السويسري فرفعها للمرة الأولى منذ 15 عاماً. 
كما يعتزم البنك المركزي الأوروبي زيادة أسعار الفائدة بواقع 25 نقطة أساس الشهر المقبل، ثم بقدر ربما يكون أكبر في سبتمبر.
ووفقاً لبيانات بلومبرج، رفع أكثر من 40 بنكاً مركزياً على مستوى العالم سعر الفائدة %0.50 على الأقل منذ بداية العام الجاري.
حسب بيانات البنك الدولي، بلغ معدل التضخم العالمي في أبريل الماضي، 8.7%، ووصل المعدل في الاقتصادات الصاعدة والنامية إلى أعلى مستوياته خلال 14 عاماً عند 4.9%.
 كما قفز التضخم في الاقتصادات المتقدمة لأعلى مستوى له خلال 40 عاماً، ففي الولايات المتحدة بلغ 8.6% الشهر الماضي، في أسرع وتيرة منذ عام 1981، وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية في منطقة اليورو 8.1%، وهي أعلى بكثير من نسبة 2% التي كان يستهدفها البنك المركزي الأوروبي. 
لا تتحكم البنوك المركزية في بعض المشكلات التي تؤدي إلى رفع التضخم، مثل الارتفاع الشديد في أسعار الطاقة والغذاء واضطرابات سلاسل التوريد.
وحسب دراسة صادرة عن مجموعة كابيتال إيكونوميكس، فإن أسعار الطاقة والغذاء شكلت 4.1 نقطة مئوية من ارتفاع أسعار الاستهلاك الذي بلغ 7.9% في الاقتصادات المتقدمة الرئيسة خلال العام الماضي.
وتتوقع أن تبدأ أسعار النفط والغاز والسلع الزراعية بالانخفاض في وقت لاحق من هذا العام، ما سيؤدي إلى انخفاض التضخم بشكل حاد، لكن معدلات التضخم الأساسية التي لا تشمل الغذاء والطاقة ستظل مرتفعة.

تكلفة الاقتراض
 بدا واضحاً أن موقف البنوك المركزية من رفع الفائدة جاء متأخراً، حيث كانت ترى أن التضخم «مؤقت» لأن الأسعار كانت مدفوعة باضطراب سلاسل التوريد بعد إنهاء الحكومات تدابير الإغلاق.
لكن أسعار الطاقة والغذاء شهدت ارتفاعاً مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أربعة أشهر، ما أدى إلى ارتفاع التضخم ودفع الاقتصاديين إلى خفض توقعات النمو العالمي لهذا العام.
ولم يترك ذلك للبنوك المركزية خياراً سوى التحرك بقوة أكبر باتجاه زيادات متتالية لأسعار الفائدة مما كانت تعتزم، وهو ما يعني ارتفاع تكلفة الاقتراض وانتهاء عصر التمويل الرخيص، حيث كانت الفائدة تحت الصفر أو تقترب منه.
فمع الارتفاع الأخير في الفائدة الأميركية منصف يونيو الجاري، يعود المعدل الذي يفرضه الاحتياطي الفيدرالي على البنوك للاقتراض، إلى ما كان عليه قبل انتشار الوباء في عام 2020، لكنه يظل منخفضاً نسبياً وفقاً للمعايير التاريخية. إلا أن تأثير هذه الزيادات قد بدأ بالفعل في الظهور، سواء على مستوى الحكومات أو الشركات والأفراد.

الأسواق الناشئة 
ساعد ارتفاع معدلات الفائدة في تعزيز الطلب على الدولار، مما أدى إلى ارتفاع قيمة العملة الأميركية بنسبة 10% منذ بداية العام، ووضع ذلك دولاً أخرى، خصوصاً الأسواق الناشئة التي لديها ديون كبيرة بالدولار، تحت ضغط هائل.
يمكن أن تكون الدول الناشئة ضحايا جانبية لارتفاع أسعار الفائدة، إذ تزيد قيمة الدولار عندما يرفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة، حسب دراسة كابيتال إيكونوميكس.
وتوضح، أن «ارتفاع الدولار سيعقد سداد ديون البلدان التي تعاني عجزاً وتقترض في كثير من الأحيان بتلك العملة».
كما خلصت دراسة لصندوق النقد الدولي إلى أن كل ارتفاع بمقدار نقطة مئوية واحدة في أسعار الفائدة الأميركية بسبب تشديد السياسة النقدية، يميل إلى رفع أسعار الفائدة طويلة الأجل بصورة فورية بمقدار ثلث نقطة مئوية في متوسط الأسواق الصاعدة، أو ثلثي نقطة مئوية في السوق الصاعدة ذات التصنيف الائتماني الأدنى المقدر بدرجة المضاربة. وإذا تساوت كل العوامل الأخرى، يتدفق رأسمال المحافظ على الفور إلى خارج الأسواق الصاعدة وتنخفض قيمة عملاتها مقابل الدولار. وهناك فرق أساسي مقارنة بزيادات أسعار الفائدة المدفوعة بأخبار اقتصادية جيدة، وهو أن «علاوة الأجل»- أي التعويض عن مخاطر حيازة سند دين بأجل استحقاق أطول – ترتفع في الولايات المتحدة في ظل مفاجآت السياسة النقدية المتشددة، ويرتفع معها العائد على سندات دين الأسواق الصاعدة المقومة بالدولار.
حتى الدول المتقدمة لن تسلم من تأثيرات أسعار الفائدة، حيث تواجه منطقة اليورو مشكلة، إذ ارتفعت نسبة الفائدة للحكومات الراغبة في الاقتراض، مع فرض علاوة على البلدان المثقلة بالديون مثل إيطاليا مقارنة بألمانيا التي تعد رهاناً أقل مخاطرة للمستثمرين.
وأحيا ذلك ذكريات أزمة الديون في منطقة اليورو، ما دفع البنك المركزي الأوروبي إلى عقد اجتماع طارئ، وأعلن أنه سيصمم أداة لمنع مزيد من الضغط في سوق السندات.

المستهلك النهائي 
لا يقتصر تأثير رفع سعر الفائدة الأساس على الأسواق والاستثمارات والتجارة وحسب، بل يطال التفاصيل اليومية للمستهلك العادي في مختلف دول العالم.
فالفائدة بحسب تعريف بنك إنجلترا، هي ما يدفعه المقترض إضافة إلى أصل القرض أو ما يحصل عليه المدخر إضافة إلى أصل الادخار من نسبة مئوية من أصل الدين أو الإيداع، وكلما ارتفعت نسبة الفائدة زاد ما يدفعه المقترض فوق أصل الدين وما يحصل عليه المدخر فوق مبلغ الادخار الأصلي، وهناك دوماً أكثر من سعر فائدة في أي اقتصاد، لكن الأهم هو ما يسمى سعر الفائدة الأساس الذي يحدده البنك المركزي.
واستناداً إليه يحدد المقرضون، من بنوك تجارية ومؤسسات مالية، أسعار فائدة مختلفة تعتمد على مدة القرض وأخطار السداد بحسب الوضع المالي للمقترض من حيث الدخل والإنفاق، وكذلك تتباين أسعار الفائدة على الودائع والمدخرات بحسب مدة احتفاظ البنك بها وحجم الوديعة أو شهادة الادخار.
وفي كل مرة ترفع فيها البنوك المركزية أسعار الفائدة، يصبح الاقتراض أكثر تكلفة، وهذا يعني ارتفاع تكاليف الفائدة على الرهون العقارية وقروض السيارات وغيرها من السلع المعمرة، كذلك ترتفع نسبة الفائدة على القروض الشخصية قصيرة الأجل، وتحديداً ما يتراكم على بطاقات الائتمان.
 وستكون قروض الأعمال أيضاً بأسعار أعلى للشركات الكبيرة والصغيرة.
وغالباً ما ترتفع أسعار الفائدة على تلك القروض بقدر يوازي ضعف أو أكثر الزيادة في نسبة الفائدة الأساسية التي يعلنها البنك المركزي، لأنها تحسب أيضاً استمرار رفع سعر الفائدة الأساسية لمدة عام أو عامين على الأقل.
في المقابل، ترتفع العائدات على المدخرات مع رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة، بحيث سيبدأ المدخرون في تحقيق عائد على مدخراتهم. 
لكن هذا يستغرق وقتاً طويلاً، ففي كثير من الحالات، خاصة مع الحسابات التقليدية في البنوك الكبرى، لن يكون التأثير محسوساً بين عشية وضحاها.

الأمان المالي 
دعت دراسة صندوق النقد الدولي الاقتصادات الصاعدة والنامية إلى استخدام سياسة نقدية أكثر تيسيراً في الداخل، لتعويض بعض الارتفاع في أسعار الفائدة العالمية، وذلك من خلال استقلالية القرار بعيداً عن تأثير الأوضاع المالية العالمية. ولفتت إلى أن كثيراً من البنوك المركزية في الأسواق الصاعدة استطاعت تيسير السياسة النقدية أثناء الجائحة، حتى في ظل هروب رؤوس الأموال. 
وأفادت بأن الاقتصادات التي تتسم بنوكها المركزية بدرجة أكبر من الشفافية، ويتم صنع القرارات المالية فيها على نحو أكثر اعتماداً على القواعد، وتتمتع بتصنيفات ائتمانية أعلى، تمكنت من تخفيض أسعار الفائدة الأساسية بنسبة أكبر أثناء الأزمة.
ونظراً لاستمرار القدرة العالية على تحمل المخاطر في الأسواق المالية العالمية حتى الآن، وإمكانية حدوث المزيد من التمييز السوقي في المستقبل، فإن الوقت ملائم حالياً لكي تقوم الأسواق الصاعدة بإطالة أجل استحقاق الدين، والحد من عدم اتساق العملات في الميزانيات العمومية، والقيام عموماً باتخاذ خطوات لتعزيز الصلابة المالية، وفق الدراسة.
وترى أن الوقت ملائم لتعزيز شبكة الأمان المالي العالمية – أي نظام الترتيبات على غرار خطوط تبادل العملات والمقرضين متعددي الأطراف الذين يمكنهم توفير النقد الأجنبي للبلدان المحتاجة إليه، داعية المجتمع الدولي لمساعدة البلدان في ظل السيناريوهات الصعبة. وأضافت: يمكن للتسهيلات المالية الوقائية التي يتيحها الصندوق أن تعطي البلدان الأعضاء دفعة إضافية لهوامش الأمان الواقية من التقلب المالي، كما يساعد في هذا الصدد توزيع مخصصات جديدة من حقوق السحب الخاصة التي يصدرها الصندوق.