عاطف عبدالله (أبوظبي) 

تفاقمت أزمة الديون العالمية نتيجة ارتفاع معدلات التضخم، وتباطؤ النمو، وتشديد الأوضاع المالية وما رافقها من ارتفاع لأسعار الفائدة، والحرب في أوكرانيا. وزاد الدين العالمي بمقدار 10 تريليونات دولار خلال العام الماضي، ليسجل مستوى قياسياً جديداً عند 303 تريليونات دولار، مع صعود ديون الأسواق الناشئة والنامية.  وحسب تقرير معهد التمويل الدولي، فإن 80% من الديون الجديدة خلال2021 جاءت من الأسواق الناشئة بقيادة الصين، ما دفع إجمالي التزاماتها لتسجيل 100 تريليون دولار. هذه الاقتصادات تمثل معاً نحو 40 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي، وهو ما حدى بالبنك الدولي للتحذير من أن حوالي 12 دولة نامية قد تعجز عن خدمة ديونها على مدى الإثني عشر شهراً المقبلة. وخلال الأسبوع الفائت علقت سيريلانكا، التي تواجه أزمات اقتصادية، مؤقتا دفع الديون الخارجية لتجنب تخلف اضطراري عن السداد نظرا لاحتياجها لاحتياطياتها المحدودة من النقد الأجنبي لاستيراد سلع أساسية مثل الوقود.

أسعار الفائدة 
تواجه الأسواق الناشئة منذ بدايات عام 2022 احتياجات إعادة تمويل قياسية عالية في الوقت الذي رفع فيه مجلس الاحتياطي الفيدرالي «البنك المركزي الأميركي» أسعار الفائدة، فيما يستعد لزيادتها عدة مرات، بعد سنوات من انخفاض تكاليف الاقتراض القياسية.
 في حين تباطأت وتيرة تراكم المديونية في عام 2021، ظلت مستويات ديون حكومات الأسواق الناشئة مرتفعة، حسب معدي تقرير معهد التمويل الدولي.
يتماشى هذا التباطؤ مع الاعتدال في عجز الميزانية الحكومية الذي شوهد خلال العام الماضي، ومع ذلك، منذ بداية الوباء، تبدو بعض حكومات الأسواق الناشئة أكثر اعتمادا على الاقتراض من خارج الميزانية، حسب التقرير، الذي أشار إلى ارتفاع مستويات ديون الشركات غير المالية في الصين وروسيا.وحدثت معظم القفزات في نسب ديون البلدان إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة. وأشار معهد التمويل الدولي أيضا إلى أن الغالبية العظمى من ديون الأسواق الناشئة الإضافية العام الماضي كانت بالعملات المحلية، وحصتها هي الأعلى منذ عام 2003.
جاء ذلك في وقت أدت فيه الحرب في أوكرانيا، التي اندلعت في 24 فبراير، إلى خفض شهية المستثمرين الأجانب على شراء الأصول بالعملة المحلية عند 18%، كما وصلت المشاركة الأجنبية في أسواق السندات المحلية إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2009.
تواجه تلك البلدان التي تعتمد بشكل كبير على الاقتراض الخارجي مخاطر أكبر من معنويات السوق المتذبذبة وارتفاع أسعار الفائدة الأميركية.
وعلى الرغم من انخفاض نسبة الدين العالمي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 351% في عام 2021 من أعلى مستوى لها على الإطلاق بأكثر من 360% في عام 2020، فإن معدل العام الماضي يزيد بنحو 28 نقطة مئوية عن مستويات ما قبل الوباء.

أكبر موجة للديون 
 ألقت الحرب الأوكرانية بظلال قاتمة على الآفاق المستقبلية للعديد من البلدان النامية التي تعتبر مستورداً رئيساً للسلع الأولية أو تعتمد اعتماداً كبيراً على السياحة أو التحويلات، وفق تقرير للبنك الدولي. ففي مختلف أنحاء أفريقيا، على سبيل المثال، أخذت تكاليف الاقتراض الخارجي في الارتفاع، حيث زادت فروق العائد على السندات بواقع 20 نقطة أساس في المتوسط. 
وعلى مدى الاثني عشر شهراً المقبلة، يمكن أن يعجز نحو 12 اقتصاداً نامياً عن خدمة ديونها، حسب مارسيلو استيفاو مدير عام، الاقتصاد الكلي والتجارة والاستثمار في البنك  الدولي.  
وقال في مدونة للبنك: هذا عدد كبير، لكنه لن يشكل أزمة ديون عالمية شاملة - فهو لن يشبه على سبيل المثال أزمة ديون أميركا اللاتينية في الثمانينيات من القرن الماضي، ولن يشبه كذلك حالات الديون غير المستدامة التي زادت على 30 حالة ودفعت إلى إنشاء المبادرة المتعلقة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون (هيبيك) في منتصف التسعينيات، لكنه يظل كبيراً - وهو أكبر موجة من أزمات الديون في الاقتصادات النامية خلال جيل.
وأضاف: إذا وقعت هذه الأزمات، فإنها ستُحدث تحولاً في المشهد العالمي. فقبل ثلاثين عاماً، كانت الاقتصادات النامية مدينة بمعظم ديونها الخارجية لحكومات أخرى – أي دائنين ثنائيين رسميين - وجميعها تقريباً أعضاء في نادي باريس، ولكنَّ الأمر ليس كذلك اليوم، ففي نهاية عام 2020، بلغت ديون الاقتصادات منخفضة ومتوسطة الدخل المستحقة لدائنين تجاريين خمسة أمثال ما كانت عليه للدائنين الثنائيين. 
وفي هذا العام، لن يذهب سوى 5 مليارات دولار إلى الدائنين في نادي باريس من بين نحو 53 مليار دولار سيتعين على البلدان منخفضة الدخل سدادها من مدفوعات خدمة ديونها العامة والمضمونة من قبل الحكومات، فضلا عن أن معظم ديون الاقتصادات النامية تنطوي الآن على أسعار فائدة متغيرة، مما يعني أنها قد ترتفع فجأة كما هو الحال بالنسبة لأسعار الفائدة على ديون بطاقات الائتمان.

كوفيد-19 
أدت أزمة «كوفيد-19» إلى زيادة إجمالي المديونية في الأسواق الناشئة والنامية، التي ارتفعت على مدار السنوات العشر الأخيرة، إلى أعلى مستوى لها منذ 50 عاماً - حيث بلغت ما يعادل أكثر من 250% من إيرادات الحكومات. وكان نحو 60% من بلدان العالم الأشدّ فقراً إما أنها في حالة مديونية حرجة بالفعل أو معرضة لمخاطر عالية تهدد ببلوغها. وبلغت أعباء خدمة الديون في البلدان متوسطة الدخل أعلى مستوى لها في 30 عاماً، مع ارتفاع أسعار الطاقة بصورة مطردة، وزيادة أسعار الفائدة في مختلف أنحاء العالم.
 وفي الوقت الراهن هناك نحو 60% من أكثر بلدان العالم فقراً المؤهلة للاستفادة من مبادرة تعليق مدفوعات خدمة الدين التي انتهى العمل بها العام الماضي تواجه مرحلة المديونية الحرجة، أو أنها معرضة بشدة لها. وسوف تجعل زيادة عدد المستثمرين الذين يحجمون عن تحمل المخاطرة بالإضافة إلى ارتفاع أسعار الفائدة الدولية جذب التمويل الجديد وخدمة الديون الحالية أكثر تكلفة. ووفقاً لما ورد في إحصاءات الديون الدولية الصادرة عن البنك الدولي، تضاعف تقريباً إجمالي خدمة الدين الخارجي قياساً على الصادرات في الفترة من عام 2010 إلى عام 2020، وحدثت هذه الزيادة في فترة الانخفاض الاستثنائي الذي شهدته أسعار الفائدة الدولية.

التخلف عن السداد 
أعلنت سريلانكا الأسبوع الماضي، أنها ستتخلّف عن سداد جميع ديونها الخارجية البالغة قيمتها 51 مليار دولار، في وقت تواجه الجزيرة أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها، وتشهد تظاهرات واسعة تطالب باستقالة الحكومة.وتشهد سريلانكا التي يبلغ عدد سكانها 22 مليون نسمة أزمة اقتصادية عميقة تتسم بنقص الغذاء والوقود وانقطاع التيار الكهربائي وتضخم متسارع وديون هائلة، في أسوأ ركود منذ استقلالها عام 1948. وواجهت الحكومة صعوبات في تسديد الدين الخارجي وجاء قرارها قبيل مفاوضات حول اتفاق إنقاذ مع صندوق النقد الدولي سعيا للحؤول دون تعثر متكرر أكثر خطورة من شأنه أن يجعل سريلانكا تتخلف كليا عن سداد ديونها. يقول المسؤولون في سريلانكا إن من شأن القرار تحرير مبالغ بالعملة الأجنبية لتمويل استيراد مواد غذائية ووقود وأدوية ضرورية جدا بعد أشهر من نقصها.
ونصف ديون سريلانكا تقريبا هي قروض من السوق بشكل سندات سيادية دولية، أحدها بقيمة مليار يورو يُستحق في 25 يوليو.
والصين أكبر دائني سريلانكا وتمتلك قرابة 10 % من الدين الخارجي للجزيرة، تليها اليابان والهند.استدانت الحكومة مبالغ كبيرة من بكين منذ 2005 لمشاريع بنى تحتية، أصبح العديد منها ممتلكات مكلفة لا يمكن التخلص منها. فيما يتعلق بالتحدي الثاني، فإن احتمال توقف روسيا عن سداد ديونها السيادية الخارجية بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها نتيجة هجومها العسكري على أوكرانيا قد يؤدي إلى تجمع المخاطر، وبينما تركز الأسواق على الديون السيادية، تواجه الشركات الروسية أيضاً احتمال التوقف عن سداد ديونها. 
وحسب بنك التسويات الدولية، فإن تعرض البنوك الأوروبية للمخاطر التي تنطوي عليها الديون السيادية الروسية محدود، إلا أنه من الصعوبة بمكان التأكد من مدى تعرض المؤسسات غير المصرفية لهذه المخاطر. وغالباً ما لا تتكشف طبيعة الروابط بين المؤسسات غير المصرفية إلا في وقت التوقف عن السداد. وأدت التقلبات التي شهدتها الأسواق بسبب توقف روسيا عن سداد ديونها في صيف عام 1998 إلى انهيار صندوق إدارة رؤوس أموال طويلة الأجل - وهو صندوق التحوط الأميركي - ودفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى التدخل لتهدئة الأوضاع في أسواق رأس المال الدولية.