مصطفى عبد العظيم (دبي)

يقف الاستثمار الأجنبي المباشر على مفترق طرق، لتحديد اتجاه بوصلته، بعد الانهيار الحاد الذي شهده خلال العام 2020، وتبخر ما يزيد عن 680 مليار دولار من التدفقات، وفقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، لتصل إلى 859 مليار دولار، مقارنة مع 1.54 تريليون دولار في عام 2019، مع توقعات استمرار التراجع خلال العام الجاري بنسبة 10% إضافية.
وعلى الرغم من التحولات الدراماتيكية التي أحدثتها جائحة كوفيد-19، في مشهد الاستثمار الأجنبي المباشر خلال العام الماضي، إلا أنها ليست العامل الوحيد الذي سيغير واقع الأمور فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر، فالثورة الصناعية الرابعة الجديدة والتحول في السياسات نحو مزيد من القومية الاقتصادية واتجاهات الاستدامة وتعزيز قدرة سلاسل الإمداد على الصمود وزيادة الاستقلال في القدرة الإنتاجية، كلها عوامل تؤثر تأثيراً بعيد المدى على توجهات الاستثمار الأجنبي المباشر في العقد الجاري.
ويبدو واضحاً أن جائحة كوفيد-19 تدفع البوصلة نحو سلاسل قيمة أقصر، وتركيز أعلى في القيمة المضافة، وانخفاض الاستثمار الدولي في الأصول المنتجة المادية، مما سيتيح بعض الفرص للتنمية، مثل تشجيع الاستثمار الذي ينشد القدرة على الصمود، وبناء سلاسل القيمة الإقليمية، والدخول إلى أسواق جديدة عبر المنصات الرقمية، الأمر الذي سيتطلب تحولاً في الاستراتيجيات الاستثمارية.
وفي حين يمكن أن تكون للجائحة آثار دائمة على وضع سياسات الاستثمار جراء التحول المحتمل إلى سياسات تفرض قيوداً أشد على قبول الاستثمار الأجنبي في القطاعات الاستراتيجية، لكنها قد تؤدي من ناحية أخرى إلى زيادة المنافسة على الاستثمار في سياق سعي الاقتصادات إلى التعافي من الأزمة، مما قد يدفع إلى مزيد من التسهيلات والحوافز الاستثمارية والإصلاحات في اتفاقيات الاستثمار الدولية.

نموذج الاستثمار 
وتتطلب مواجهة التحديات واغتنام الفرص، وفقاً لـ «أونكتاد»، تغييراً في نموذج الاستثمار، عبر الانتقال من التركيز على الاستثمار الموجه نحو التصدير والساعي إلى تحقيق الفاعلية في قطاعات ضيقة التخصص في إطار سلاسل القيمة العالمية، إلى التركيز على الاستثمار في قاعدة صناعية أوسع، والانتقال من المنافسة القائمة على التكلفة للمستثمرين في موقع واحد إلى المنافسة على الاستثمارات المتنوعة القائمة على المرونة والقدرة على الصمود.

صدمة مركبة 
ويعتبر الانكماش المتوقع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر أقوى بصورة ملحوظة من الانكماش المتوقع في كل من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وحجم التجارة العالمية، نظراً لأن جائحة «كوفيد-19» تعتبر صدمة مركبة لجوانب العرض والطلب والسياسة بالنسبة للاستثمار الأجنبي المباشر، والذي يتسم بدرجة حساسية أكبر لمثل هذه الصدمات.
فمن جانب العرض، شهدت أكبر 5000 شركة متعددة الجنسيات في العالم، تراجعا شديدا في الأرباح المتوقعة لعام 2020، قدره تقرير «أونكتاد» بنحو 40% في المتوسط، مع تحول العديد منها من تحقيق أرباح إلى خسائر متوقعة كبيرة، وهو الأمر الذي يؤثر بشدة على توقعات تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لعام 2020، فهذه الشركات تعتبر المغذي الأساسي للاستثمار الأجنبي المباشر العالمي، وهي تعتمد في غالبية استثماراتها الأجنبية المباشرة على إعادة استثمار أرباحها، والتي تمثل في المتوسط أكثر من 50% من هذا الاستثمار. 

تبعات الجائحة 
ومن المتوقع ومع الركود الشديد الذي يشهده الاقتصاد العالمي كإحدى تبعات جائحة «كوفيد- 19»، أن تعيد الشركات متعددة الجنسيات تقييم خطط مشاريعها الجديدة وأن تغلق أو تؤجل العديد منها في ظل توقع التراجع الكبير في أرباحها.
ومن جانب الطلب، أدّت القيود التي فرضتها جائحة «كوفيد- 19» على التمويل الحكومي إلى تراجع الصفقات الجديدة في مشاريع البنية التحتية بأكثر من 40 %، وهو القطاع الذي يعتبر عادة من أهم القطاعات المستفيدة من الاستثمار الأجنبي المباشر، بالتزامن مع تراجع عمليات الدمج والاستحواذ عبر الحدود، والتي انخفضت، وفقاً لتقرير أونكتاد، بأكثر من 50 % في الأشهر الأولى من عام 2020 مقارنة بالعام 2019.

مرونة الشركات 
تتميز الشركات متعددة الجنسيات بدرجة مرونة أعلى أثناء الأزمات، وذلك بفضل الروابط بين الشركات الأم والفروع المحلية، وقدرتها الأعلى للوصول إلى الموارد المالية وتنوعها، الأمر الذي يمكنها من خلال الاستثمار الأجنبي المباشر أن تلعب دوراً هاماً في دعم الاقتصادات خلال الانتعاش الاقتصادي بعد الجائحة، على الرغم من توقع أن تفرض الجائحة تغييرات ملموسة في الانتشار الجغرافي لعمليات هذه الشركات، حيث ينتظر أن تقوم هذه الشركات – التي تتمتع بالمرونة والموارد اللازمة للبحث والتطوير – بمراجعة وتعديل سلاسل القيمة العابرة للحدود بهدف حماية عملياتها من أي اضطرابات مستقبلية محتملة في سلاسل التوريد في ضوء الخبرة التي مرّت بها في ظل جائحة «كوفيد-19».