مصطفى عبد العظيم (أبوظبي)
تشهد الاستثمارات البينية في كل من الإمارات والولايات المتحدة الأميركية، منذ سنوات عدة، تحولاً نوعياً في حجم ومجالات الاستثمار التي تجاوزت القطاعات التقليدية من البنية التحتية ومشاريع النفط والغاز إلى مجالات اقتصاد المستقبل المرتكزة على التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاء وعلوم الحياة والطاقة المتجددة والاستدامة، بما يعكس الرؤية المشتركة للبلدين في استشراف المستقبل والمساهمة الفاعلة في تحقيق الازدهار العالمي.
فمنذ أن اتجهت بوصلة الشركات الإماراتية للاستثمار في قطاعات التكنولوجيا الأميركية في العقد الأول من الألفية الجديدة، والتي برزت مع استثمار «مبادلة» في شركة «أيه إم دي» الأميركية لصناعة معالجات الرقائق الإلكترونية، حيث لعبت «مبادلة» دوراً تحولياً في مسيرة الشركة، تلاها في 2009 تأسيس شركة «غلوبال فاوندريز»، إحدى الشركات الرائدة على مستوى العالم في مجال تصنيع أشباه الموصلات، فضلاً عن كونها مستثمراً رائداً في مجال البرمجيات وعلوم الحياة والتجارة الجديدة. وتعد الإمارات العربية المتحدة اليوم أحد اللاعبين الذين لهم تحرك بارز في صناعة أشباه الموصلات خلال السنوات الأخيرة، فقد فطنت مبكراً لأهمية هذا المجال، من خلال تعزيز استثماراتها الخارجية في هذا القطاع، لتتوسع الشراكات العميقة بين الشركات الأميركية والإماراتية، لتشمل اليوم عدداً واسعاً من أبرز شركات التكنولوجيا الأميركية من «أي بي إم» و«مايكروسوفت» إلى «إنفيدا» و«أوبن إيه آي».
ويشكل الذكاء الاصطناعي أحد أبرز الملفات المهمة في التعاون بين البلدين والشركات التابعة لهما في أعقاب إعلان «MGX» الإماراتية، شراكة عالمية للاستثمار في الذكاء الاصطناعي بقيمة تصل إلى 100 مليار دولار مع شركات «مايكروسوفت وبلاك روك وجلوبال إنفراستركتشر بارتنرز».
آفاق أوسع للشراكة
تعد الصناعات الناشئة ذات القيمة المضافة العالية القوة الدافعة للنمو الاقتصادي المستهدف لدولة الإمارات، والمتمثلة في قطاعات الاقتصاد الجديد والنمو الأخضر والتمويل والاستثمار المستدامين وقطاع السياحة، وجميعها تمثل قواسم وتوجهات مشتركة مع الولايات المتحدة، سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى القطاع الخاص والشركات، الأمر الذي يفتح آفاق الشراكة بصورة أكبر للانتقال إلى مستوى جديد من التعاون الاقتصادي والاستثمار المتبادل، وتحقيق المصالح المشتركة.
ويشكل إعلان «مايكروسوفت» استثمار 1.5 مليار دولار في شركة «جي 42» لإدخال أحدث تقنيات «مايكروسوفت» في مجال الذكاء الاصطناعي، والدفع بمبادرات تطوير المهارات إلى دولة الإمارات ودول العالم، خطوة مهمة لترسيخ مكانة أبوظبي في قطاع التكنولوجيا العالمي، وتأكيداً على الثقة والفرص الواعدة التي تتمتع «G42» لتوسيع حضورها الدولي في مجال الذكاء الاصطناعي لتصبح في مصاف أكبر الشركات العالمية على هذا الصعيد.
ولا تعمل هذه المشاريع على تعزيز العلاقات بين دولة الإمارات والولايات المتحدة فحسب، بل من المتوقع أن يكون لها تأثير إيجابي على الجنوب العالمي. فبعد استثمار «مايكروسوفت» بقيمة 1.5 مليار دولار في G42 في أبريل 2024، أعلنت الشركتان توحيد جهودهما لبناء مركز بيانات يعمل بالطاقة الحرارية الأرضية بقيمة مليار دولار في كينيا. ويخلق التعاون الوثيق بين الحكومتين إطاراً جديداً للسياسة والإشراف لتوسيع المبادرات التجارية والبحثية مع حماية الملكية الفكرية القيمة والمصالح الوطنية. كما أعلنت شركة «إم جي إكس»، وهي شركة إماراتية متخصصة في مجال التكنولوجيا، تركّز على تسريع تطوير وتبني الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، شراكة مع «بلاك روك» و«جلوبال إنفراستركتشر بارتنرز» و«مايكروسوفت»، لإطلاق «الشراكة العالمية للاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي»، وذلك للاستثمار في مراكز البيانات الجديدة والموسعة، تلبيةً للطلب المتزايد على القدرة الحوسبية الفائقة.
وتعمل هذه الشراكة على توفير بنية مفتوحة ونظام حيوي واسع النطاق، يوفر مجالاً واسعاً ومتنوعاً لمجموعة من الشركاء والشركات، فيما تعمل شركة «إنفيدا» على دعم الشراكة العالمية للاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، مع توظيف خبرتها في مجال مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، ومرافق الذكاء الاصطناعي لصالح منظومة الذكاء الاصطناعي. كما ستعمل الشراكة العالمية للاستثمار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بشكل فاعل مع قادة الصناعة، للمساهمة في تعزيز سلاسل إمداد الذكاء الاصطناعي.
وبموجب هذه الشراكة، سيتم العمل على توظيف 30 مليار دولار من رأس المال الخاص من المستثمرين ومالكي الأصول والشركات، على أن يصل هذا إلى 100 مليار دولار من الاستثمار.
مؤشرات تنافسية
يستفيد مجتمع الأعمال والمستثمرين في أميركا من البيئة التنافسية والفرص التي تتمتع بها الإمارات، حيث توفر الدولة الممكنات ومقومات النجاح كافة للمستثمرين ورواد الأعمال وأصحاب الأفكار، بما في ذلك البنية التحتية والتقنية والتشريعية، وموقعها الاستراتيجي، وقدرتها على أن تكون حلقة وصل لمجتمعات الأعمال مع الجنوب العالمي الذي يشهد نمواً مستمراً.
وتشكل السوق الإماراتية إحدى الوجهات المهمة لمجتمع الأعمال الأميركي، فهناك 16 ألف مواطن أميركي يساهمون في رخص تجارية رسمية داخل الدولة، في قطاعات مختلفة مثل المالية والتأمين والتجارة والعقارات والصناعات التحويلية والأنشطة العلمية والتقنية والنقل والتخزين والتعدين، وغيرها.
ويمثل الاقتصاد الإماراتي أحد أكثر اقتصادات المنطقة تنوعاً وتنافسية وتوليداً للفرص، ولا سيما في القطاعات الجديدة والمستقبلية، حيث تساهم العديد من القطاعات غير النفطية والسريعة النمو في دعم الناتج المحلي الإجمالي للدولة، مثل الرعاية الصحية والتمويل والضيافة والخدمات اللوجستية والتكنولوجيا الزراعية والمالية والتجارة الإلكترونية، كما أن الاستثمار الأجنبي المباشر ما زال يمثل أحد أهم محركات النمو في الدولة.
وحققت الإمارات في عام 2022 أعلى رقم في تاريخها لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بقيمة 22.7 مليار دولار، وبنسبة زيادة تبلغ 10% مقارنة بعام 2021، لتكون الأولى على مستوى المنطقة. فيما سجلت الدولة ثاني أعلى نسبة زيادة في عدد مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر الجديدة في عام 2023 بمعدل 28% مقارنة بعام 2022، كما حلت في المركز الأول عالمياً في تقرير المرصد العالمي لريادة الأعمال لعام 2024، محافظةً على مكانتها العالمية المرموقة في جذب الاستثمارات والمشاريع الريادية.
رؤية استشرافية
استطاعت الإمارات، بفضل الرؤية الاستشرافية للقيادة الرشيدة، تعزيز مكانتها الإقليمية والعالمية وجهة اقتصادية واستثمارية عالمية، وذلك عبر تبنِّي سياسات واستراتيجيات رائدة ومرنة، للتحول نحو نموذج اقتصادي جديد قائم على التكنولوجيا والمعرفة والابتكار، مما جعلها تتمتع ببيئة اقتصادية مثالية وجاذبة للأفكار والمواهب وريادة الأعمال والمشاريع الناشئة.
ورسخت الدولة مكانتها ضمن اقتصادات المستقبل، عاصمة جديدة لرأس المال والاستثمار النوعي، ونجحت في توسيع قاعدة اقتصادها الوطني، من خلال ركائز رئيسية، أبرزها استقطاب المواهب وتنمية ريادة الأعمال وتمكين الابتكار والمعرفة والتكنولوجيا، وتعزيز الاستدامة والنمو الأخضر، كما أنها تواصل توفير الممكنات والأطر التشريعية والبنى التحتية والحوافز التي تجعلها المقصد الأول لأصحاب الأفكار المبدعة والمشاريع الريادية، ومركزاً مهماً لتطبيقات ومشاريع الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتكنولوجيا المالية والبحث والتطوير واقتصاد الفضاء.
الاستثمارات البينية
وصل رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر الإماراتي في الولايات المتحدة الأميركية إلى 38 مليار دولار في عام 2022، بنسبة تزيد على %50 من إجمالي استثمارات دول الشرق الأوسط في أميركا، وذلك ارتفاعاً من 33.1 مليار دولار في عام 2021، و31.6 مليار دولار حتى نهاية 2020، ونحو 27.6 مليار دولار حتى نهاية 2019.
وترتكز الاستثمارات الإماراتية في الولايات المتحدة على قطاعات حيوية تتصدرها حالياً قطاعات التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والفضاء وعلوم الحياة والطاقة المتجددة والاستدامة.
ووصل الاستثمار الأجنبي المباشر الأميركي داخل السوق الإماراتية إلى نحو 4.3 مليار دولار في عام 2021، وتنوعت الاستثمارات الأميركية المباشرة في دولة الإمارات لتشمل مختلف الأنشطة الاقتصادية، ومن أبرزها الصناعة وقطاع السيارات والخدمات المالية والتأمين والتعدين والتطوير العقاري والنقل والتخزين والتعليم والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والخدمات الصحية والأغذية وغيرها.