هو الإمام الكبير المحدّث محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، رحمه الله، وكنيته أبو عبدالله، الحافظ، إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه. ولد في شوال سنة 194ّهـ، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، فألهمه الله حفظ الحديث وهو ابن عشر سنين، ولم يبلغ السادسة عشرة من عمر إلا وقد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع، وخرج وعمره ثماني عشرة سنة مع أمه وأخيه أحمد إلى مكة المكرمة للحج، وبعد الحج رجع أخوه بأمه، وبقي الإمام البخاري بمكة والحجاز لطلب الحديث. قال قبل موته بشهر: كتبت عن ألف وثمانين رجلاً، وروى عنه خلائق وأمم، قال الإمام الفربري تلميذ الإمام البخاري الذي روى عنه الصحيح: سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفاً لم يبق منهم أحد غيري.
وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح، وروى عنه الترمذي في جامعه، كان ينظر في الكتاب مرة واحدة فيحفظه من نظرة واحدة. وقد أثنى عليه علماء زمانه من شيوخه وأقرانه، فقال الإمام أحمد، رحمه الله: «انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي، بل ويفضله عليهم جميعاً فيقول: ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل.
وهذا الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي المتوفى 277هـ وصفه بأنه هو الإمام الحافظ الناقد، شيخ المحدثين، كما يصفه الذهبي في «سير أعلام النبلاء» فيقول: «لم يخرج من خراسانَ أحفظُ منه، ولا قدِم العراقَ أعلمُ منه». وقال قتيبة بن سعيد: رحل إليّ من شرق الأرض وغربها خلق، فما رحل إليّ مثل محمد بن إسماعيل البخاري. دخل مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح على البخاري فقبل بين عينيه. ثم سأله عن حديث كفارة المجلس فذكر له علته، فلما فرغ قال مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك. وقال الإمام ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري،وكان رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع، والزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة دار البقاء، وقال البخاري: إني لأرجو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالبُِنِي أَني اغْتَبْتُهُ.
والبخاري أمير المؤمنين في الحديث، وأستاذ أهل الصنعة الحديثية، وإمام أئمة أهل الحديث في القديم والحديث، وكان إماماً حافظاً فقيهاً واعياً، بهر أهل عصره ومن جاء بعدهم بحفظه وفهمه النافذ وبصره الناقد في علوم الحديث. وقد وُصِف بالحفظ من صباه وصغره، فروى الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» عن سليم بن مجاهد قال: كنت عند محمد بن سلام البيكندي، فقال: لو جئتَ قبلُ لرأيتَ صبيّاً يحفظ سبعين ألف حديث، قال: «فخرجت في طلبه حتى لقيتُه، فقلتُ: أنت الذي تقول: أنا أحفظ سبعين ألف حديث؟ قال: نعم، وأكثر منه، ولا أجيئك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثاً من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي في ذلك أصل، أحفظه حفظاً عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».