أبوظبي (الاتحاد)
تبنت دولة الإمارات، خلال العقود الثلاثة الماضية، مجموعة كبيرة من المبادرات والإجراءات والخطوات الاستباقية التي سعت من خلالها إلى التصدي لظاهرة التغير المناخي والتحديات البيئية الناجمة عنه، حيث نجحت في تحويل الكثير من التحديات إلى فرص تنموية مبتكرة، عبر عدد من المبادرات والاستراتيجيات التي ترجمت رؤيتها المستقبلية ونهجها الاستباقي في مواجهة المشاكل الناجمة عن الاحتباس الحراري باعتباره التحدي الأكبر والأخطر على مستقبل كوكب الأرض. وتعتبر مبادرة البصمة البيئية واحدة من المبادرات العديدة التي دشنتها دولة الإمارات في مواجهة تحدي تغير المناخ، والتي تجسد اهتمام الدولة باتباع أفضل الممارسات وأحدث التقنيات المستخدمة في مراقبة التأثيرات المجتمعية على البيئة، وذلك في إطار سعيها إلى تحقيق اقتصاد أكثر استدامة، وتطوير سياسات بيئية مبنية على أساس علمي، للمساعدة في خفض انبعاثات الدولة من غاز ثاني أكسيد الكربون وخفض معدل البصمة البيئية للفرد. ويبرز محور «الطريق نحو تحقيق الحياد المناخي» ضمن حملة «استدامة وطنية» التي تم إطلاقها مؤخراً، تزامناً مع الاستعدادات لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «COP28» الذي يُعقد خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 12 ديسمبر من العام الجاري في مدينة «إكسبو دبي»، جهود دولة الإمارات لتحقيق أهداف الحياد المناخي، بما يتماشى مع التوجهات الوطنية للدولة وخططها الاستراتيجية.
وتتماشى استضافة دولة الإمارات لمؤتمر «COP28»، مع جوهر مبادرة البصمة البيئية التي تبحث عن حلول إبداعية لترشيد الاستهلاك، وزيادة كفاءة استخدام الموارد، وتشجيع أنماط الإنتاج المستدامة، من أجل الحفاظ على كوكب الأرض وإنجاز خطط التنمية الشاملة، وخفض التكاليف الاقتصادية والبيئية والاجتماعية مستقبلاً.
وتعتبر مدينة «إكسبو دبي» التي تستضيف «COP28» نموذجاً للمدن التي تعمل على خفض بصمتها البيئية، حيث تقدم رؤية إماراتية واقعية بشأن مفهومها للاستدامة وتحقيق أفضل طرق العيش التي تضمن أسباب الرفاهية، وفي الوقت نفسه تحمي الأرض عبر الخفض المدروس للانبعاثات، وصولاً إلى الحياد المناخي، وقد شهد العالم على مدى 6 أشهر، وهي مدة انعقاد «إكسبو 2020 دبي»، نموذجاً متقدماً عن شكل مدن المستقبل التي تطبق كافة أساليب حماية البيئة.
أداة مهمة
تجسد مبادرة البصمة البيئية التي أطلقتها الإمارات في عام 2007 لتكون الدولة الأولى في المنطقة والثالثة عالمياً بعد سويسرا واليابان التي تطلق مثل هكذا مبادرات، سعي دولة الإمارات الدائم إلى تحقيق الانسجام التام بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإدارة الموارد الطبيعية المتوافرة بشكل أفضل، دون تجاوز حدود الاستدامة.
وتعتبر المبادرة واحدة من الأدوات المهمة التي تقيس معدلات استنزاف الأفراد للموارد الطبيعية، وتتيح نتائج القياس للمسؤولين وصناع القرار لوضع السياسات والخطط، حيث تساعد المبادرة على الوقوف على المحاذير البيئية وتعّرف الأفراد على أهمية الموارد الطبيعية بالنسبة لاقتصاد الدول، بالإضافة إلى أنها تكشف المحاذير الأخرى التي قد ترافق أي استثمار، الأمر الذي يضمن الاستخدام الكفء للموارد الطبيعية، بما يخدم جيل الحاضر وأجيال المستقبل.
الكوكب الحي
وحددت المبادرة في عام 2008-2009 القطاعات الرئيسية المحركة للبصمة البيئية لدولة الإمارات، والمتمثلة في الأجهزة المنزلية التي تعتبر أكبر العوامل المساهمة في البصمة البيئية للدولة، حيث تسهم بنسبة 57% من البصمة البيئية، ويأتي بعدها قطاع الأعمال/ الصناعة والقطاع الحكومي، حيث يسهمان بنسبة 30% و12% على التوالي، ما يشير إلى أهمية مساهمة الفرد في تقليل البصمة البيئية.
وتعتبر مبادرة البصمة البيئية وسيلة مهمة لبناء قواعد بيانات متطورة توفر معلومات حديثة وموثوقاً بها في مختلف المجالات، وهو أمر حقق أيضاً مستوى عالياً من الشفافية بين الجهات الرسمية والجمهور، فضلاً عن كونها مشروعاً وطنياً يقوم على مبدأ الشراكة الفاعلة بين مؤسسات المجتمع الرسمية وغير الرسمية والمنظمات الدولية المرموقة، وهو المبدأ الذي أصبح يمثل ركيزة مهمة من ركائز العمل الوطني.
بيانات معتمدة
وتكمن أهمية استخدام البصمة البيئية كأداة لتوعية الناس بأنماط الاستهلاك، حيث تدفع المبادرة باتجاه وضع خطط ومعايير يتم على أساسها التخفيف من الأثر السلبي لسلوكيات الإنسان على البيئة، إذ تساهم في تعريف أفراد المجتمع بأن التصرفات المسؤولة تجاه البيئة والاستهلاك الرشيد لمواردها لا يتناقض مع مستويات الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي الذي تعيشه دولة الإمارات، بل هو الضمانة الأكيدة لتعزيزه واستدامته.
وتوصلت مبادرة البصمة البيئية في عام 2010 إلى أن 80% من البصمة البيئية تأتي نتيجة استهلاك الطاقة، وذلك نظراً لطبيعة أرض الإمارات الصحراوية وتسارع استهلاك الموارد الطبيعية المحلية وطبيعة طقس الدولة الحار والجاف، لذلك تحتاج الإمارات لكميات كبيرة من الطاقة لتوفير التبريد وتحلية مياه البحر للاستهلاك المحلي. ويعتبر معدل البصمة البيئية مقياساً لاستدامة الدول، حيث يقارن استخدام الموارد الطبيعية للفرد، والتي يعبر عنها باستخدام الوحدة الإنتاجية الحيوية للأرض «الهكتار العالمي».
ترشيد الاستهلاك
ومن أجل مواجهة مخاطر أن حوالي 80% من البصمة البيئية في دولة الإمارات كربونية، وفي إطار سعيها لتحقيق المبادرة الاستراتيجية لتحقيق الحياد المناخي بحلول 2050، تركز السياسات العامة لدولة الإمارات على ترشيد الاستهلاك، وتقليل كمية الطاقة اللازمة لأنشطة، مثل التبريد وتحلية مياه البحر، والعمل على إجراء بعض التغييرات على الأنماط المعيشية واختيار التكنولوجيا المناسبة، ووضع السياسات العامة للتحول من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع مبتكر من أجل الحفاظ على أمن وسلامة المجتمع، وبناء اقتصاد عالمي متنوع أكثر استدامة وانفتاحاً.
وتسعى وزارة التغير المناخي والبيئة، بالتعاون مع شركائها في القطاعين الحكومي والخاص، إلى إطلاق مبادرات ومشاريع تسعى إلى خفض البصمة البيئية عبر تعزيز مبادئ الإنتاج والاستهلاك المستدامين في كافة القطاعات ذات الأولوية، والتي تم تحديدها في الخطة الوطنية للإنتاج والاستهلاك المستدامين، باعتبار البصمة البيئية من أولويات الدولة التي تسهم في المحافظة على البيئة وتنميتها.
مشاريع حيوية
أسهمت مبادرة البصمة البيئية بدور مهم في خفض معدل البصمة البيئية للفرد في الدولة من نحو 12 هكتاراً في عام 2006 إلى 8.9 هكتار للفرد في عام 2021، وهو ما يصب في اتجاه ترسيخ أنماط استهلاكية وإنتاجية أكثر استدامة لتحقيق التنمية المستدامة، وتحقيق الهدف 12 ضمن سلسلة أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة، والتي تقر بالدور الأساسي والشامل للاستهلاك والإنتاج المستدامين في التنمية المستدامة.
ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع في التحسن في السنوات القليلة المقبلة مع استكمال العديد المشاريع الحيوية في قطاع الطاقة المتجددة والطاقة النووية للأغراض السلمية وتحويل الطاقة إلى نفايات، والبدء بوضع وتنفيذ البرامج المتعلقة بالموجهات الاستراتيجية في الأجندة الوطنية لرؤية الإمارات وفي آلية تنفيذ استراتيجية الإمارات للتنمية الخضراء، وغيرها من الخطط الاستراتيجية المعتمدة في القطاعات المختلفة، خاصة أن المرحلة المقبلة ستشهد تطويراً مهماً لبرامج وأدوات التوعية، بما يتوافق مع الأولويات والموجهات الرئيسية في الاستراتيجية الوطنية للتوعية والتثقيف البيئي التي تم اعتمادها مؤخراً، والاستفادة من الاستراتيجية الوطنية للابتكار لإيجاد المزيد من الوسائل والحلول المبتكرة لمواجهة هذه الظاهرة.
سياسات بيئية
استهلت البصمة البيئية مرحلتها الأولى على مستوى الدولة بجمع البيانات التي تتعلق بتوافر المصادر وأنماط الاستهلاك في الدولة في مختلف القطاعات، مثل الطاقة والتجارة وصيد الأسماك والزراعة والمياه والتخطيط الحضري.
وطورت المبادرة في مرحلتها الثانية سياسات بيئية مبنية على أساس علمي للمساعدة في تخفيض انبعاثات الدولة من غاز ثاني أوكسيد الكربون، وتخفيض معدل البصمة البيئية للفرد، وذلك من خلال عملية ذات مرحلتين، تتمثلان في تطوير معايير كفاءة الطاقة للإضاءة الداخلية في الإمارات، وإجراء تقييم اجتماعي - اقتصادي للسياسات المعتمدة في نموذج سيناريو البصمة البيئية، يستهدف قطاعي المياه والطاقة في الإمارات. وتجسد مبادرة البصمة البيئية الأهمية الكبيرة لمشاركة وتكاتف جهود جميع الجهات الحكومية والصناعية وهيئات المجتمع المدني والهيئات البيئية الأهلية والرسمية، وغيرها من المؤسسات ومعاهد الأبحاث في دولة الإمارات، بهدف ترسيخ مفهوم المسؤولية الجماعية فيما يتعلق ببناء مجتمع مستدام. وتعتمد المبادرة في عملية قياس البصمة البيئية على استخدام معادلة بسيطة ترتكز على رصد إجمالي الاستهلاك الصافي من خلال خفض قيمة التصدير من مجموع الإنتاج والاستيراد.