سارة شهيل*

من ضمن المجالات المتنوعة التي تعمل على تعزيز جودة الحياة والقوة الناعمة لأي وطن، يظل العمل الإنساني في المقدمة باعتباره تجسيداً لقيم الخير المستدامة بين أبناء الوطن، وانعكاساً لإعلاء قيمة الإنسان وكرامته في نظر القيادة والشعب، وتأكيداً على وعيهم بالمستهدف الأساسي لشتى الجهود المبذولة، ألا وهو الإنسان أياً كانت صفته أو أصله. 
ورغم منزلته المشرّفة في حياة كل من يمارسه، يحمل العمل الإنساني لغزاً محيراً بين طياته وصعوبات قد لا تكون ظاهرة للعيان. فالفرد الذي يبذل روحه للآخر قد يكون هو نفسه في خضم تحديات مع ذاته، ولكن قرر أن يواجهها بغرض انتشال من هو أحوج للعون وتحقيق الغاية الأسمى لمجتمعه.
والتجليات هنا لا تعد ولا تحصى عندما يصبح العمل الإنساني درباً مستمراً يشقه المرء في الحياة. ولقد تحدّث علم النفس عما يُعرف بال «زِناد»، وهي نقطة الألم التي تشكلت من تجارب الماضي وتُحركها المؤثرات الخارجية وقد تُفاقمها، ولا يُستثنى من تلك المؤثرات أن يرى الإنسان أخاه في قمة ضعفه، خاصةً وأن هذا الضعف تندرج تحته ألوان من المشاعر التي تتراوح ما بين الثورة والانكسار، ويكون لرد الفعل المناسب والمنضبط في تلك الحالات دور حاسم في تهدئة الطرف الآخر ودعمه وحمايته.
والإنسان، كذلك، بداخله العديد من الجوانب التي لا يُستبعد أن تكون متناقضة من دون وعي منه. ويُعد العمل مع الآخر فرصته ليرى انعكاس ذاته، وليواجه ما فيها من جوانب دخيلة لا تتوافق مع مبادئه وقيمه وتطلعاته.
ويندرج عدم التمييز بين المفاهيم، على الرغم من حُسن النية، تحت تلك الجوانب الدخيلة. ومنه الخلط بين مفهوم أصيل كالتعاطف، بما يتضمنه من قدرات عاطفية ومعرفية تساعد على المواساة وبناء الثقة بالذات والآخرين والتواصل الإنساني الحقيقي، ومفهوم الشفقة، الذي هو أقرب إلى التركيز على المعاناة والسلبية وإحباط كلا الطرفين. وهي مفاهيم تتطلب التفريق بدقة عند تطبيقها، ويحرص على استيعابها كل مخلص لعمله الإنساني خلال تواصله وتعامله مع الحالات التي تتطلب الدعم.
ويُدرك القائد الحقيقي هذا. وقد يرى كذلك تحيزات لا واعية تشوب تفكيره، ولا يشترط أن تكون نحو فئة من الناس وإنما كذلك تجاه قرار أو إجراء أو فكرة، وتكون دروس الماضي مصدر تحيزه، والتي لا يُفضّل أن يُعمل بها في الوقت الراهن مع تغير ما حوله من عوامل ومعطيات، فيعيد النظر في تلك التحيزات ويبحث عن أصلها وسبل التصدي لها.
وينضم استيعاب العالم الخارجي والتأقلم معه كذلك إلى قائمة التحديات، وتلك النقطة نراها كثيراً عند بذل جهود التوعية للجماهير التي لم تعد تستجيب إلى أساليب الماضي، واتضحت لديها الاختلافات الفكرية والثقافية بين الماضي والحاضر. فمثلاً، بعد أن أصبح عالمنا مزدحماً بالتفاصيل المتداخلة، غزت نزعة التبسيط كل شيء، بما يشمل المواد المرئية والصور في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، حرصاً على عدم إرهاق نظر الرائي بتفاصيل عديدة تُضاف إلى حياته المُثقلة بالازدحام وضيق الوقت.
والصحيح أن ندرك أن كلنا بشر نبقى دائماً في طور اكتساب الخبرة واستكشاف الذات والآخر والعالم من حولنا بتحولاته ومتغيراته، والإنجاز يكمن في المواكبة والوعي والاعتراف بالقصور والتعلم منه والعمل عليه والنظر إلى الماضي بوعي ومكتسبات الحاضر. 
ولهذا يعد تطوير الذات ركناً أساسياً في إرساء دعائم العون والارتقاء بمسيرة العمل الإنساني، وهو عامل قوي في ضمان استدامة القيم والمبادئ الإنسانية، على مستوى القيادة والتخطيط والتنفيذ، وبناءً عليه يتبلور دور التكاتف والعمل الإنساني في انتشال من هم بحاجة إليه.
وقد كان مبدأ العطاء الذي يرتكز في أساسه إلى تطوير وتهذيب الذات، ومعه قيم التسامح والمحبة والخير والإيثار، موروثاً ثقافياً وإنسانياً تناقلناه في دولة الإمارات عن أبينا زايد، طيب الله ثراه، وجزءاً جوهرياً من الهوية والتكوين الإماراتي، وقد رسّخه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بإيمانه بأن تقدم الأوطان مرهون بالاستثمار في الإنسان، وبناء جميع فئات المجتمع وتمكينها ودعمها. ولا شك في أن العطاء الإماراتي نهر لا ينضب بما يشمله من جميع تلك المكونات الأساسية والمحورية من القيم الإنسانية السمحة التي لن نحيد عنها ولم تتغير عن طريقها.. وتبقى هذه القيم ركيزة أساسية ومصدر قوة للمجتمعات الإنسانية.
*مدير عام مركز أبوظبي للإيواء والرعاية الإنسانية - إيواء