أبوظبي (الاتحاد)

تحت عنوان «وثيقة الأخوة: الدين والأخلاق وتغيير رؤية العالم»، نشر مركز تريندز للبحوث والاستشارات دراسة للدكتور رضوان السيد، المفكر العربي، وعميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، أكد خلالها أن الخلاف العميق الذي أوصل إلى انشقاقات في فهم الدين في مجالنا، كان في الحقيقة خلافاً على العلاقة بالعالم، والعالم المعاصر بالذات، مشيراً إلى أنه بسبب التفوق الأوروبي الثقافي والعسكري في زمن الاستعمار، ظهرت نزعات تحولت إلى تيارات وأحزاب، لمواجهة التفوق الغربي، واجتراح سبيل خاص للنهـوض باسـم الإسـلام. آنذاك كثر الحديث عن مواجهـة الغـزو العسكري والغزو الثقافي الغربي؛ واعتماد مقولة التجدد الذاتي بالعودة إلى الأصول الطهورية، بعيداً عن الغرب، كما ظهرت تيارات تحديثية تقول بضرورة الإفادة من التقدم الغربي من أجل التحرر منه أو القدرة على منافسته.
ويرى السيد أنه خلال القرن العشرين، انصرفت تيارات الاعتدال والإنصاف إلى مجادلة الفكر اليميني الصاعد القائل بصراع الحضارات – باعتبارنا جزءاً من العالم، ولا نريد مصارعته، بل نريد العيش فيه ومعه بسلام – وتطور الأمر مطلع القرن الحادي والعشرين باتجاه العنف الساطع مع العالم (هجوم تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة ، ونشر الإرهاب في أوروبا)، والارتداد نحو العنف في ديارنا، وإقامة دويلات باسم الإسلام المظلوم؛ تسببت في قتل ألوفٍ من الناس، كما تسببت استطرادًا في تهجير الملايين، وجلبت كل جيوش القوى العالمية إلى بلادنا بحجة مكافحة الإرهاب!

وأكد السيد أن دولنا الوطنية واجهت تنظيمات التطرف والإرهاب من أجل حفظ الدين من انحرافات الأقلية المجرمة، وحفظ الاستقرار والعلاقات بالعالم، كما دعمت المؤسسات الدينية من أجل استعادة السكينة في الدين، والدفاع عن شرعية الدول الوطنية وضرورتها للاستقرار والتنمية، وإجراء إصلاح ديني؛ ما نجح من قبل في الوصول إلى الآفاق المرجوة. وحسب السيد: هذه المؤسسات كان عليها المواجهة المباشرة لمقولات «الصحويين» والإرهابيين، واجتراح أفكار وبرامج للإصلاح وسحب الريح من أشرعة المتطرفين – والاتجاه إلى شراكاتٍ مع الأديان والثقافات في العالم. وقد عملت على ذلك من دون تنسيق فيما بينها عدة جهات: الأزهر بمصر، ومنتدى تعزيز السلم من أبوظبي، ومبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ثم رابطة العالم الإسلامي بالسعودية، ووزارة الأوقاف وهيئات العلماء بالمملكة المغربية، والهيئات الدينية بالمملكة الأردنية الهاشمية.

دعوة للتنوير والمصالحة
واستنتج السيد أن هناك اتجاهاً واضحاً نحو بناء الشراكات ظهر- حسب السيد- في رسالة عمّان (2004) ورسالة الكلمة السواء (2007) بالأردن، ومبادرة الملك عبدالله بن عبد العزيز لحوار الأديان والثقافات (2007) بمكة ومدريد والأمم المتحدة. ففي الخطوات الثلاث اجتمع مئات العلماء والمفكرين في عمّان وفي مكة المكرمة، ووجّهوا رسالة سلامٍ إلى العالم. وحدث ذلك تحت وطأة هجوم تنظيم «القاعدة» على الولايات المتحدة عام 2001 والذي تسبب في سقوط آلاف الضحايا بين المدنيين؛ وقد كان المهاجمون عربًا. تقول الرسالتان ومبادرة الملك: إنّ الإسلام دين أخُوّةٍ وسلام، وإنّ ما حدث ويحدث من عنف تقوم به قلة ضئيلة العدد والعدة وخارجة على الدين وأعراف المسلمين في العيش في العالم ومعه. وتدعو أهل الأديان جميعًا للحديث والحوار من أجل المصالحة والإصلاح والتنوير والتعاون لصنع الصالح والمتقدم والذي يخدم الناس جميعًا. وقد لقيت رسالتا عمّان استجابات من الفاتيكان ومن الكنيسة الأنجليكانية ببريطانيا. أما مبادرة الملك عبدالله فقد تحولت إلى مؤسسة اتخذت لها مقرًا في فيينا وضمت ممثلين للديانات الخمس الكبرى. ومنذ عامين (2021) نقلت مقرها إلى البرتغال. أما مبادرات دولة الإمارات العربية المتحدة بالعاصمة أبوظبي فقد ضمت تحت جناحيها مؤسسة منتدى تعزيز السلم (2014)، الذي أصبح اسمه (منتدى أبوظبي للسلم)، برئاسة الشيخ عبدالله بن بيه، والأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين (2015) برئاسة شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب. 

منتدى أبوظبي للسلم 
ويرى السيد في دراسته أن مقولة السِلْم ظلّت هي المقولة الرئيسة في أعمال منتدى تعزيز السلم؛ لكن مؤتمراته عالجت من خلال اجتهادات وحركة العلاّمة بن بيه الواسعة في كل من أبوظبي وأميركا وأفريقيا ظواهر التطرف والإرهاب، والشراكات، والتضامن والحوار العالمي، والإصلاح الإسلامي. ومن بين أطروحات النهوض والإصلاح الكبيرة والكثيرة، يبرز نصّان للعلّامة بن بيه: إعلان مراكش (2016) والذي يُعنى بمعالجة مشكلات الأقليات لجهتي التأصيل والتأويل في التاريخ والنصوص إبّان اشتعال نار «داعش» ضد المسيحيين والأقليات الأخرى، وإبراز مسألة المواطنة باعتبارها هي الحلّ والنموذج؛ كتاب المدينة أو عهدها. والنص الآخر: ميثاق حلف الفضول الجديد (2019) والذي يستوحي حلف الفضول الأول ومقاربته في أخلاق المروءة بمكة قبل الإسلام، ويصل النص المحكم إلى استنتاج القواسم الأخلاقية المشتركة في الديانات الإبراهيمية، ولقائها مع قيم العصر.

وثيقة الأخوة الإنسانية
وأشارت الدراسة إلى أنه في عام 2019 أيضاً أصدرت رابطة العالم الإسلامي بمكة إعلاناً صار مشهوراً لأنه يقول بالأخُوّة والمواطنة العالمية، ويعتنق معظم بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).
وبلغ الأمر الذروة في وثيقة الأخُوّة الإنسانية التي وقعها شيخ الأزهر مع البابا فرنسيس يوم 4 فبراير 2019 في احتفالٍ كبيرٍ بأبوظبي. ثم بطلبٍ من دولة الإمارات العربية المتحدة صار تاريخ توقيع الوثيقة (4 فبراير من كل عام ) بالتصويت عليها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوماً عالمياً للتسامح والأخوة. وأكد السيد في دراسته أن وثيقة الأخُوة الإنسانية ذات معنى كبير، وهي إحدى الذرى التي بلغها الحوار المسيحي- الإسلامي؛ ولذلك تتجدد أهميتها وتتمدد كلما مضى عليها الزمان. فالإمام والبابا يمثلان أكبر دينين في العالم، والمؤمنون من الطرفين يبلغون نصف سكان العالم. والوثيقة تمثل تغييراً من جانب الفاتيكان باتجاه المسلمين، كما تمثل تغييراً من جانب الأزهر باللقاء في رحاب العالمية. فلا بد من التذكير بالوثيقة دائماً واعتناق مبادئها وإبراز محاورها الأساسية والمصيرية في الخطابين الديني والإنساني، وتأثيراتها في سلام العالم وأمنه.

قراءة في مضمون الوثيقة 
وقدم السيد قراءة موجزة في بعض الفقرات الواردة في نص «وثيقة الأخوة الإنسانية»، لرصد معانيها الكبرى وأهدافها التي ترسخ معاني التسامح على الصعيد العالمي، واستدل السيد على ما جاء بمقدمة الوثيقة التي وقعها البابا فرنسيس وشيخ الأزهر بأبوظبي: «يحمل الإيمانُ المؤمنَ على أن يرى في الآخر أخًا له، عليه أن يؤازره ويحبّه. وانطلاقاً من الإيمان بالله الذي خلق الناس جميعاً وخلق الكون والخلائق وساوى بينهم برحمته؛ فإنّ المؤمن مدعوّ للتعبير عن هذه الأخُوة الإنسانية بالاعتناء بالخليقة وبالكون كلّه، وبتقديم العون لكل إنسان، لاسيما الضعفاء منهم، والأشخاص الأكثر حاجة وعوزاً».

تبنّي ثقافة الحوار درباً 
يواصل السيد في دراسته رصد مكامن القوة البلاغية في نص الوثيقة المكتنز برسائل التسامح والتعايش والسلام، مشيراً إلى أن الوثيقة في خطابيةٍ رائعةٍ تبدأ «باسم الله الذي خلق البشر جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات والكرامة، ودعاهم للعيش كإخوةٍ فيما بينهم ليعمروا الأرض وينشروا فيها قيم الخير والمحبة والسلام». ثم تأتي فقرة طويلة في المناداة والمناشدة باسم الشعوب التي فقدت الأمن، وباسم الأخُوّة التي تجمع البشر جميعاً، وباسم الحرية التي وهبها الله لكل البشر، وباسم العدل والرحمة، وباسم كل الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة – باسم ذلك كلّه يعلن الأزهر والكنيسة الكاثوليكية تبنّي ثقافة الحوار درباً، والتعاون المشترك سبيلاً، والتعارف المتبادل نهجاً وطريقة. ويطالب البابا والإمامُ قادةَ العالم بالعمل جدياً على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام. نوعان من التطرف وعن أهمية الأخلاق يقرأ رضوان السيد في دراسته نصاً وتمضي الوثيقة قائلةً: إنّ الحضارة الحديثة حقّقت إنجازات كبرى في مجال العلم والتقنية، والطب والصناعة والرفاهية. لكن تراجعت خلالها الأخلاقُ الضابطة للتصرفات والقيم الروحية.. بحيث تصاعد نوعان من التطرف: التطرف الديني والتطرف الإلحادي. ولفت السيد الانتباه في دراسته لمحورية الأسرة باعتبارها نواة لا غنى عنها للمجتمع البشري. وإلى أهمية إيقاظ الحس الديني. وحسب نص الوثيقة، فإن الدين بالفهم الصحيح له يعني الإيمان بالله وعبادته وحثّ جميع البشر على الإيمان، ويعني كذلك إدانة كل التصرفات التي تهدد الحياة.
وعلى هذا النحو لا مناص من وقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام الأديان واسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب: وذلك كله ينطلق من: أنّ العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتّباعه للوصول إلى حياةٍ كريمة. 
وتختم الوثيقة باعتبار نفسها دعوة للمصالحة والتآخي بين جميع المؤمنين بالأديان، بل وبين المؤمنين وغير المؤمنين، وكل الأشخاص ذوي الإرادة الطيبة.