بقلم معالي مريم بنت محمد سعيد حارب المهيري *
اتسمت حياة أجدادنا بالكثير من المرونة، فقد عرفوا كيف يتعاملون مع الطبيعة من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل درجات الحرارة المرتفعة صيفاً في الصحراء، وأحسنوا التكيّف مع الظروف الجوية القاسية، وإدارة الموارد المحدودة لديهم.
ويقول الأب المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»: «إن الآباء هم الرعيل الأول الذي لولا جلدهم على خطوب الزمان، وقساوة العيش لما كتب لجيلنا الوجود على هذه الأرض التي ننعم اليوم بخيراتها».
واليوم، ومن خلال مبادرات مثل جائزة زايد للاستدامة، نسعى لمواصلة إرث الشيخ زايد من خلال العمل على توفير حلول مستدامة تتسم بالمرونة لعدد من المجتمعات الأكثر تضرراً في مختلف أنحاء العالم.
وقد شهدنا مؤخراً اجتماع قادة العالم وخبراء المناخ ورجال الأعمال والمجتمع المدني في مدينة شرم الشيخ المصرية من خلال المؤتمر السابع والعشرين للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP27)، وهو أكبر تجمع سنوي حول العمل المناخي، وناقش الحضور سبل التكيف مع المناخ واتخاذ إجراءات أكثر مرونة لمواجهة تداعيات التغير المناخي.
وكان على رأس جدول أعمال المؤتمر، العمل على توسيع نطاق تدابير التكيف أو القدرة على الاستعداد وبناء المرونة لمواجهة الظروف الجوية القاسية أو الاتجاهات أو الاضطرابات المتعلقة بتغير المناخ. وتم الإيعاز إلى اللجنة الدائمة المعنية بالتمويل التابعة للأمم المتحدة المعنية بتغير المناخ، لإعداد تقرير حول إمكانية مضاعفة حجم التمويل لدعم إجراءات التكيف مع الظروف المناخية والنظر في هذه المسألة خلال مؤتمر COP28 الذي تستضيفه دولة الإمارات العربية المتحدة العام المقبل.
وقد قدمت العديد من الدول تعهدات جديدة تدعم التكيف مع آثار التغير المناخي، من ضمنها المملكة المتحدة التي تعتزم مضاعفة تمويلها لهذا الغرض ثلاث مرات ليصل إلى 1.5 مليار جنيه إسترليني بحلول عام 2025 وذلك بهدف مساعدة الدول النامية على التكيف مع الظروف المناخية. وتضمنت النتائج الرئيسة لمؤتمر الأطراف السابع والعشرين اتفاقية لإنشاء صندوق الخسائر والأضرار، الذي سيكون مكرساً لتعويض الدول المعرّضة للظروف الجوية القاسية عن الأضرار التي تتكبدها من جراء التغير المناخي.
كما سلّط مؤتمر COP27 الضوء على أهمية أنظمة الإنذار المبكر والتي تعتبر أساسية لتقليل الأضرار التي تسببها الكوارث الطبيعية. وقد أسهم الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر في تقليص الأضرار بنحو 90%. وبحسب اللجنة العالمية للتكيف، فإن إنفاق 800 مليون دولار على مثل هذه الأنظمة في البلدان النامية من شأنه أن يتجنب خسائر تتراوح بين 3 و16 مليار دولار سنوياً.
وتلتزم دولة الإمارات بتعزيز قدراتها على التكيف مع تغير المناخ. ففي مؤتمر COP26، أعلنت الدولة أنها ستعزز جهودها البيئية ومشروع الكربون الأزرق من خلال زراعة 100 مليون شجرة من أشجار الغاف بحلول عام 2030. كما تعمل الدولة على تكثيف جهودها للحد من هدر الطعام وتعزيز أنماط الإنتاج والاستهلاك المستدامة.
وقد جاءت هذه الخطوات بعد إطلاق دولة الإمارات عدداً من المبادرات خلال السنوات الأخيرة بهدف تعزيز القدرة على التكيف مع التغير المناخي والمضي في مسيرة التقدم والازدهار. فمثلاً على صعيد مواجهة القضايا المتعلقة بانعدام الأمن الغذائي وشح المياه النظيفة، قامت الدولة بتطبيق أساليب مبتكرة مثل إنتاج محاصيل تحافظ على المياه والتربة. كما تستهدف الإمارات الاعتماد بصورة أكبر على تبني ممارسات زراعية ذكية مناخياً واستخدام تقنيات متطورة تزيد من مردود الإنتاج الزراعي وتخفض من استهلاك الموارد والانبعاثات، ما يسهم في معالجة حلقة المياه والغذاء والطاقة المهمة.
من جهة أخرى، أسهم الاستثمار في تلقيح السحب في إطار برنامج الإمارات لبحوث علوم الاستمطار، في زيادة نسبة الأمطار التي باتت تشكل حاجة ملحة. كما تمتلك دولة الإمارات خبرة عالمية المستوى في تقنيات تحلية المياه المستدامة.
وما هذه سوى بعض الأمثلة التي تعكس ريادة الإمارات في تطوير ونشر حلول مبتكرة تهدف إلى تعزيز المرونة في مواجهة تفاقم أزمة التغير المناخي. وتسهم هذه الحلول في تلبية الاحتياجات الوطنية بالتوازي مع الحد من التأثير السلبي على البيئة، ودعم الجهود الرامية إلى بناء اقتصاد مرن ومستدام يقوم على أسس المعرفة والابتكار.
وتساهم جائزة زايد للاستدامة، التي أتشرف بمشاركتي ضمن لجنة التحكيم الخاصة بها، في توسيع نطاق جهود الإمارات لتطبيق حلول مناخية عملية سواء على مستوى الدولة أو خارجها. وتعمل الجائزة على تكريم المشاريع المستدامة التي تساعد المجتمعات حول العالم على أن تكون أكثر مرونة في مجالات الغذاء والصحة والطاقة والمياه، وهي من القطاعات الرئيسة التي تتأثر بتبعات التغير المناخي.
ومنذ إطلاقها في عام 2008، أسهمت جائزة زايد للاستدامة في إرساء الأسس التي تساعد في تعزيز المرونة لدى مختلف المجتمعات حول العالم، وهو ما نلمسه من خلال المشاريع المهمة للرواد الفائزين بالجائزة والبالغ عددهم 96 فائزاً، ويشملون شركات صغيرة إلى متوسطة الحجم، ومنظمات غير ربحية، ومدارس ثانوية. وقد استطاعت الجائزة على مدار نحو 15 عاماً في إحداث تأثير إيجابي ونوعي في حياة أكثر من 370 مليون شخص موزعين في 150 دولة.
وقد أسهمت المشاريع التي استفادت من منحة الجائزة منذ إطلاقها في عام 2008، في توفير أطعمة مغذية لنحو 2.3 مليون شخص، وطاقة متجددة لنحو 53 مليون شخص، ومياه صالحة للشرب وبتكلفة مناسبة لأكثر من 11 مليون شخص. كما ساعدت هذه المشاريع في ترشيد استهلاك 100 مليار ليتر من المياه، وتوفير خدمات رعاية صحية منخفضة التكلفة تسهم في إنقاذ أرواح أكثر من 442 ألف شخص في بعض المجتمعات، فضلاً عن توفير رعاية صحية لأكثر من 216 ألف امرأة حامل وطفل حديث الولادة.
وإننا نتطلع إلى المضي قدماً في توسيع نطاق جهودنا من خلال تكريم الكوكبة القادمة من الفائزين خلال مراسم توزيع جائزة زايد للاستدامة لعام 2023، التي ستقام في 16 يناير 2023 في مركز أبوظبي الوطني للمعارض (أدنيك).
يعد التكيف مع التغير المناخي أحد أهم التحديات في القرن الحالي، ولا يمكن مواجهة تبعاته من خلال التركيز على قطاع أو دولة أو جيل معين. أعتقد أنها أشبه بسباق تتابع بما يتضمن من عملية متسلسلة ومتواصلة، حيث يتوجب علينا تحقيق التكامل بين مختلف الجهود، وتحفيز الابتكار، والعمل معاً حتى الوصول إلى خط النهاية.
وزيرة التغير المناخي والبيئة، وعضوة لجنة تحكيم جائزة زايد للاستدامة