دينا جوني (دبي) 

بدأت علوم الفضاء تأخذ حيزاً كبيراً من الأنشطة والمواد الدراسية في العديد من النظم التعليمية. ولا تتوقف الوكالات والهيئات والمؤسسات المعنية بصناعات الفضاء وعلومها، ولا القيّمون على التعليم في الدول، عن دعوة المدارس والطلبة إلى التركيز على علوم الفضاء كونها مفتاح سوق عمل المستقبل، الذي يؤمن لصاحبه مركزاً مهنياً ومردوداً مادياً يفوق المجالات الصناعية والهندسية الأخرى.
وتحدث لـ«الاتحاد» عدد من الخبراء والمتخصصين حول تطورات الخريطة الأكاديمية لمؤسسات التعليم والتوسع في تدريس علوم الفضاء، وقالوا: قلّما نجد اليوم وكالة فضاء لا تُدرج ضمن خدماتها برنامجاً تعليمياً أو تدريبياً تقدّمه إما في مراكزها أو من خلال جولات على المدارس، أو عبر شراكات تعقدها مع وزارت التعليم أو الهيئات المحلية، بالإضافة إلى أنشطة التعلّم عن بُعد التي انطلق سهمها بشكل خاص خلال جائحة «كورونا». 
وأضافوا: في حين كانت تلك الأنشطة التدريبية، محصورة في السنوات السابقة بطلبة الجامعات، أصبح التركيز اليوم على الفئات العمرية الأصغر بدءاً من رياض الأطفال، إذ يعتبر العديد من ممثلي وكالات الفضاء أن جذب الطلبة إلى تلك الصناعة يبدأ بتحريك الفضول منذ الصغر، والتعريف بتطبيقات علوم الفضاء في حياتنا اليومية وكيفية الاستفادة منها. 
وأكد الخبراء وممثلو مؤسسات ووكالات فضاء في العالم لـ«الاتحاد» أهمية علوم الفضاء في التعليم، وضرورة التركيز على الطلبة بمختلف فئاتهم العمرية لجذبهم نحو قطاع كان بالأمس تخصصياً نخبوياً، وتحوّل اليوم إلى مجالٍ متداولٍ ومطلوب. 

لتطبيقات الأقمار الصناعية
وتطرقت أليساندرا فيرنيل من منظمة «أوريزي» غير الربحية الأوروبية وموقعها باريس، عن تطبيقات علوم الفضاء وأهميتها للمجتمعات والأفراد، والتي من خلالها تنشأ الحاجة إلى مزيد من الطلبة والكفاءات في هذا القطاع، قائلة: إن «أوريزي» تجمع وكالات الفضاء والمنظمات الدولية والمؤسسات البحثية والشركات الخاصة المشاركة أو المهتمة بالأنشطة المتعلقة بالفضاء في جميع أنحاء أوروبا. وتحفّز الحوار والتعاون بين المؤسسات العامة، والشركات الصغيرة والمتوسطة، ومؤسسات الصناعة والأوساط الأكاديمية من القطاعات الفضائية وغير الفضائية. وهي تهدف إلى بناء علاقات قوية مع المجتمعات الجديدة في الفضاء، لتشجيع الاستخدامات المبتكرة لتطبيقات الأقمار الصناعية للاستجابة للتحديات الراهنة.
وعن الفضاء والتعليم، صرّحت بأن «أوريزي» أطلقت عام 2020 مشروع GIS للمدارس الممول أوروبياً، ويستمر لغاية نهاية عام 2023، ويشرك المشروع الطلبة في تعلم تخصصات «ستيم» التي تتضمن العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والفنون، من خلال إدخال تدريس تكنولوجيا نظم المعلومات الجغرافية التي لم يتم تبنيها بعد في المدارس الثانوية، وتطبيقها على مسائل «تغير المناخ» الذي يحظى باهتمام متزايد من الشباب، وكذلك استخدام بيانات الأقمار الصناعية للمرة الأولى.
وقالت إنه يتم توفير البيانات من قبل برنامج مراقبة الأرض الأوروبي «كوبرنيكوس»، ويتم استخدامها لمساعدة الطلبة في الإنشاء المشترك لخدمات قائمة على نظم المعلومات الجغرافية.

 العلوم الاستقصائية
وعن منهجية التدريس في البرنامج، قالت أليساندرا فيرنيل: إنها تجمع بين مناهج تعليم العلوم القائم على الاستقصاء، والتعلم المستند إلى حل المشكلات، في سياق متعدد التخصصات. وسيتعلم الطلاب كيفية الحصول على معلومات وبيانات لتحويلها إلى منتج GIS واستخدامها لتحليل تحديات مناخية محلية محددة مسبقاً من قبلهم.
وأكدت أن البرنامج يساهم في زيادة معرفة الطلبة بمواضيع «ستيم» واكتساب مهارات جديدة في تحليل وإدارة بيانات نظم المعلومات الجغرافية وإحصاءات البيانات المفتوحة والتقنيات لتحليل الظواهر البيئية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي زيادة ميل الطلاب لاختيار مواضيع STEAM في حياتهم الجامعية. وكذلك زيادة الوعي البيئي لدى الطلبة والمشاركة المدنية والمواطنة المسؤولة، وزيادة معرفة المعلمين واكتساب مهارات جديدة في تدريس تخصصات «ستيم» من حيث المحتوى والمنهجيات، واعتماد وحدات تعليمية مبتكرة في المدارس تركز على نظم المعلومات الجغرافية التي لم تتم تغطيتها بعد في مناهج المدرسة التقليدية.

أزمات المزارعين 
بدورها، أوضحت آنّا ليزا دوناتي ممثلة المنظمة أن صناعة الفضاء بالفعل توجّه الأنظمة التعليمية لتخريج مزيد من الطلبة المتخصصين، وقالت إن السوق يحتاج إلى كفاءات ومهارات جديدة في التكنولوجيا والفضاء؛ لأن هذا القطاع بما يتضمنه من تقنيات وبيانات وصور، يختزن إمكانات كبيرة لاستخدامها في المستقبل قد لا تكون واضحة اليوم. 
وقالت إن معالجة أزمات المزارعين على سبيل المثال، أو الأحزمة الخضراء في الريف، أو حرائق الغابات، وتآكل الشواطئ، وتحسين نوعية التربة تحتاج إلى تحليل صور الأقمار الصناعية واستخراج المؤشرات والبيانات والتقارير للتمكّن من استخدامها لإحداث تغيير حقيقي. 

مشاريع جماعية
وأشار نسيم بوفيه من الجامعة الدولية للفضاء وبرنامج دراسات الفضاء ومقرّها البرتغال، إلى المجتمع الصغير المتماسك الذي تمثله الجامعة من خلال 300 خريج سنوياً فقط، يشغلون اليوم مناصب عليا في مختلف التخصصات في أهم وكالات الفضاء. 
وقال إن المشاركين في برنامج الجامعة  نصفهم من خريجي كليات الهندسة، أما النصف الآخر، فموزعون على تخصصات أخرى منها الإدارة والقانون والمالية والفنون والعلوم الإنسانية، إلى جانب التوازن الجندري بين الذكور والإناث. 
ويعمل المشاركون في البرنامج في مشاريع جماعية لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية في قطاع الفضاء.
ويقدم برنامج دراسات الفضاء دورة مكثفة مدتها تسعة أسابيع في مواقع مختلفة حول العالم. ويوفر دورات في جميع تخصصات الفضاء، فضلاً عن التدريب العملي من خلال ورش العمل والزيارات المهنية.
وأشار أن قطاع الفضاء وتخصصاته لا تتعلق فقط بالتقنيات والهندسة، وإنما يجمع كل التخصصات الممكنة، مشيراً إلى  أن البرنامج يجمع منذ سنوات خريجين من مختلف الكليات، يجمعهم حب علوم الفضاء. 
وأكد أن الدورة الماضية من البرنامج شهدت وجود دارسين من الإمارات، لافتاً إلى أن الجامعة تطمح في المرحلة المقبلة إلى التواجد في دولة الإمارات نظراً للنمو الذي يشهده قطاع الفضاء فيها. 

بناء اقتصاد المعرفة
قالت آمنة النعيمي من مركز محمد بن راشد للفضاء، إن الإمارات تتجه نحو اقتصاد المعرفة، وتشجيع الطلبة على دراسة مواد «ستيم» هو السبيل لتحقيق رؤية الدولة واستراتيجياتها.
ويقدّم المركز العديد من فرص التعلّم والتدريب داخل وخارج الإمارات بالتعاون مع الشركاء، منها إتاحة الخبرات البحثية لطلبة الجامعات، الزيارات المدرسية، ومخيم اكتشاف الفضاء، وبرامج «سفير المعلمين»، و«صفر جاذبية» و«اكتشف الكوكب الأحمر». 
وعن أبرز التحديات التي تواجه تعميم برامج علوم الفضاء، قالت إن التحدي الأبرز كان عائق زيارة المدارس بسبب جائحة «كورونا»، بالإضافة إلى ابتعاد الطلبة التام في بداية تطبيق ورش العمل عن كل ما يتعلق بعلوم الفضاء، والذين أبدوا في مراحل لاحقة تحسناً كبيراً واستيعاباً للمفاهيم والمعلومات. 
وعن كيفية تقريب علوم الفضاء من عامة الناس، قالت إنه من المهم الإضاءة على كيفية الاستفادة من تطبيقات علوم الفضاء على الأرض لكي يتمكّن الناس من ربطها بممارسات وخدمات عايشوها، مثل الأشعة السينية في المستشفيات، وأجهزة الهواتف الذكية، وغيرها. 
وعن مهمة اكتشاف المريخ، قالت إنه من المهم أن يعرف الطلبة أن الدراسات التي تجري اليوم على المريخ، هدفها تمكيننا من فهم الظواهر الحاصلة على الأرض، وكيفية تحسين ظروفها، مثل المناخ والعوامل المؤثرة فيه على سبيل المثال. 
وذكرت أن مركز محمد بن راشد للفضاء يقدّم من خلال مشروع «جيل الأمل» الصور والمعلومات الجديدة من الأقمار الصناعية بعد إعدادها وتقديمها بطريقة تناسب المراحل العمرية المختلفة. 

صناعة المستقبل 
قال جاكوب ستيلماشوسكي من وكالة الفضاء البولندية، إن علوم الفضاء هي صناعة المستقبل، وعلى الوكالات أن تجعل الطلبة أكثر انخراطاً فيها منذ الصغر، بالاعتماد على فضولهم الفطري والغموض الذي يكتنف السماء بالنسبة لهم ويجعلها مساحة رحبة لخيالاتهم. 
وقال إن وكالة الفضاء البولندية تنظم أنشطة تعليمية في تكنولوجيا الفضاء، وسياسة الفضاء البولندية، والمشاركة في بعثات وتجارب فضائية، موجهة إلى جميع الفئات العمرية ومختلف المجتمعات. كما تعمل على إشراك الطلبة في برامج هندسة الفضاء، والعمل على مشاريع تطبيقية وورش عمل، واعتماد المنهج التجريبي والتدريب.
واعتبر أن تقريب علوم الفضاء للطلبة وأولياء الأمور يبدأ عبر تعريفهم بالتطبيقات التي نستخدمها في حياتنا اليومية والتي استخدمت أساساً في علوم الفضاء، مثل خدمة الخرائط ومشاهد الكرة الأرضية والمعالجات الدقيقة، وكلها قائمة على تكنولوجيا الفضاء.
واعتبر أن وكالات الفضاء بالطبع تجهز الأجيال للعمل في هذه الصناعة، إلا أنه ليس من السهل إعداد المناهج التي تناسب جميع الطلبة من رياض الأطفال إلى الثاني عشر. 
وقال إن وكالة الفضاء البولندية تعمل مع مجموعة من المدارس حول كيفية استخدام البيانات الصادرة عن الأقمار الصناعية، أو كيفية استخدام التقنيات التي صنعت أساساً للفضاء ويتم استخدمها حالياً.

برامج تدريبية للمدارس
أشارت الدكتورة سمية محمد من وكالة الفضاء المصرية- قسم اتصالات الأقمار الصناعية، إلى تزايد الوعي بأهمية علوم الفضاء في التعليم وفي سوق العمل؛ لذلك بدأت الوكالة مؤخراً بالبرامج التدريبية الموجّهة لطلبة المدارس بعد سنوات من تطبيقها مع طلبة الجامعات. 
ومؤخراً، أطلقت مشروع «كان سات» لطلبة المدارس، يتضمن قمراً تعليمياً يمكن من خلاله تطبيق العديد من التطبيقات التقنية والهندسية، بما يحاكي القمر الصناعي الحقيقي. وتنفذ الوكالة هذا المشروع في مرحلته الأولى في المدارس التكنولوجية «ستيم» في مصر، على أن تعممه تدريجياً على بقية المدارس. 
وقالت إنه بعد التعرّف على أهمية هذا القطاع والتوعية بشأنه، يجب أولاً البدء بمرحلة التصنيع في كل ما يتعلق بمنتجات الفضاء، ولتحقيق ذلك، لا بد من كوادر ومهندسين ويد عاملة ماهرة ومتخصصة، ليأتي هنا دور التعليم. 
وأشارت إلى أن برنامج الفضاء المصري قد أطلق 35 نموذجاً من الأقمار الصناعية، استفادت منها 28 جامعة متعددة التخصصات من الهندسة إلى العلوم والتقنيات الحاسوبية. أما أبرز التحديات، فتتركز في تبسيط المفاهيم الجديدة بالنسبة للطلبة، والتمكن من تدريب مجموعات كبيرة من المعلمين ليشكلوا النواة التدريبية في البرنامج لتسريع عملية التطبيق والتوعية. 
وأشارت إلى أن المجتمع التربوي سيكون أكثر إقبالاً على علوم الفضاء كلما تأكد أن تلك التطبيقات تمسّ الحياة اليومية وتحسّن من الخدمات التي يستفيد منها.

قوالب مفهومة ومبسّطة
وقال مارشال وين برونزيول من Innospace في كوريا، إننا نعيش فترة «الفضاء الجديد» التي تشهد انخفاض التكاليف على الرحلات الفضائية مقارنة بالعقود السابقة. ولفت إلى أن هذا هو السبب الأساسي في ازدهار صناعة الفضاء التي نشهدها اليوم، والتي تنعكس على سوق العمل والقطاع التعليمي. 
وقال إن علوم الفضاء يجب أن تقدّم للطلبة وأولياء الأمور في قوالب مفهومة ومبسّطة، وربطها في أمور محسوسة يقوم بها الأفراد بشكل يومي، لافتاً إلى أن غير ذلك لن يساهم في تحقيق قفزة كبيرة في الإقبال على تلك العلوم. 
ولفت إلى أنه على الأطفال والطلبة التعرّف بشكل دائم على كيفية تأثير علوم الفضاء والتقنيات بحياتهم اليومية. 
فالأقمار الصناعية يمكن من خلالها رصد التحولات في كوكب الأرض بشكل دقيق والمعادن والغازات وحالة الأرض، وتقديم خدمات أفضل من خلال البيانات التي يمكن جمعها. 
وأشار إلى أن تكنولوجيا الهواتف الذكية ستتمتع بإمكانات أكبر بفضل تكنولوجيا الفضاء، وكذلك خدمات الشحن التي أصبحت عملية الرصد فيها أكثر دقة وفاعلية، والحوسبة السحابية كذلك.
وأشار إلى أن دور التعليم والمعلمين وربطهم بالعلماء كبير جداً في تقديم كل ذلك بشكل يناسب كل فئة. 

أداة لإلهام الأطفال 
واعتبر نيك ميرسي من وكالة الفضاء الأسترالية، أن عالم الفضاء مادة ملهمة تجذب الأطفال إلى المهارات المطلوبة في سوق العمل والتي تركّز على مواد «ستيم». وأشار إلى الحاجة لكفاءات شابة قادرة على تحقيق النمو في الاقتصاد؛ لذلك تركز الأنظمة التعليمية على برنامج «ستيم» الذي يجمع الرياضيات والعلوم والهندسة والتكنولوجيا والفنون.
وقال إن علوم الفضاء اليوم لم تعد محصورة بالتقنيات المتعلقة بهذه الصناعة فقط، وإنما بالاستفادة من البيانات الصادرة عنها لتمكّين قطاعات العمل المختلفة من تقديم خدمات جديدة ودقيقة تعزز التنافسية. 
ولفت إلى أن الكثير من الشركات والمنظمات في أستراليا في مجالات عدة، مثل التنقيب والمواصلات والزراعة والمياه والهندسة، بدأت بدراسة استخدام التكنولوجيا القائمة على علوم الفضاء والتي ستساعدها في أن تكون خدماتها أكثر تنافسية مقارنة بغيرها. وأشار إلى أن الحكومات أيضاً يمكنها الاستفادة من تلك البيانات للحيلولة دون وقوع مزيد من الحرائق والفيضانات.