إبراهيم الملا (الشارقة)

في فن «المالد» مزيج آسر من الطقس الروحاني والأداء الجسدي، يستعيد فيه المُحتَفون بالمولد النبوي الشريف في دولة الإمارات، نفحات عطرة من سيرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، تتناغم فيها الأشعار والأناشيد والمدائح النبوية مع إيقاع الأجساد المُنتشية بإلهامات الوجد ومقامات الشوق. وتقام المناسبة في يوم المولد الشريف، وفي مناسبات اجتماعية أخرى، مشمولة بالخصوصية الدينية والثقافية والاجتماعية، والقائمة على التعاضد والألفة والتآزر بين أفراد المجتمع.

في حب الجناب النبوي
وتتجلى المحبّة في هذه الاحتفالات بكامل بهائها وألقها، حيث يكون التعبير عن حب الجناب النبوي هو مطلب العارفين، ومسعى الراغبين، وشوق الذائبين في الشمائل النبوية، والصفات المحمدية، ذات الطبائع الكاملة، والبركات المزدانة بالمدد السماوي، وبالنور الفائض على النور.

إلهام للوعي الجمعي
ويعدّ فن «المالد» في الإمارات من أكثر مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي تميزاً وحضوراً وفعالية في تشكيل النسق الديني والشعبي والتراثي والوجداني لأهل الإمارات، في هذه الاحتفالية الغالية والراسخة في الذاكرة المحلية، بما يتخلّلها من محبة ومديح وعرفان لمقام النبي، ولحضور هذه المحبة الملهمة في الوعي الجمعي. وهناك العديد من الأسماء والقامات الدينية والشعرية والإنشادية التي ساهمت في ظهور وانتشار فن المالد بالإمارات.

زهاد وعُباد
ورغم أن تحديد بدايات ظهور هذا التقليد الديني والعرفاني في الإمارات ما زال بحاجة لمزيد من البحث الاستقصائي والتنقيب التاريخي، إلّا أن الروّاد الأوائل لهذا الطقس الجماعي في الدولة يذكرون أنهم وجدوا هذا التقليد الأدائي عند المشايخ و«النظّيمه» (مشتقة من «النظّيم» وهو المنشد في المالد)، وأنهم تعلّموا على أيديهم، وواصلوا الأداء كما شاهدوه وخبِروه.
وتشير بعض الدراسات، إلى أن ملامح وبدايات ظهور فن المالد في الإمارات تشكلّت ضمن آلية التأثّر والتأثير، وارتبطت بالهجرات والأسفار وظهور شخصيات من الزهاد والعباد قادمة من بلدان بعيدة، سكنت واستقرت قديماً في البلاد، واتصفت بالزهد والتصوّف والصلاح، فساهمت بقوة في إشاعة المظاهر الدينية المرتبطة بالاحتفال بمولد النبي الكريم.

مخطوطات أصلية 
وفي كتاب: «رحلة إلى الصير» يتحدث الباحث والشاعر الراحل أحمد راشد ثاني عن زيارات المتصوّف اليمني علوي بن أحمد حسين الحداد إلى الصير وهو الاسم القديم لرأس الخيمة في القرن الثامن عشر الميلادي، مستعيناً بمخطوطات أصلية تضمنت انطباعات ومذكرات دوّنها الحدّاد، وبمنظومات وأبيات لساكن الصير الشاعر محمد بن صالح المنتفقي، مشيراً إلى أثر الرجلين في ظهور الفرقة الصوفية العلوية عند البحارة في المنطقة.

مدرسة صوفية
وهناك من يرى أن تأسيس فن المالد يعود إلى محمد عمر الأفغاني الذي عاش في دبي بين أعوام 1870 و1918، وأسس مدرسة صوفية تنتمي على الأغلب إلى الطريقة القادرية في منطقة الرفاعة. والتحق الشيخ عبدالله المريد (والد الشيخ عبدالرحيم المريد) بالشيخ الأفغاني وعاش طالباً ومريداً عنده في العقد الأول من القرن العشرين. كما نجد أيضاً أسماء أخرى عدة في بداية القرن العشرين ومنهم الشيخ أحمد بن راشد بن شبيب، والشاعر والقاضي علي بن سالم بوملحا المرر، وثاني بن محمد بن عفصان، والشيخ محمد بن علي بن دعفوس، والعلّامة عبدالله بن محمد الخزرجي، والشيخ عبدالله بوملحه، ومحمد بن رهيف، والسيد الشنقيطي، والشيخ محمد نور، والشيخ أحمد الشيباني، وعبيد بن قمبر، والشاعر عبدالله بن سليّم، والمريد عبدالله الهاشمي في أبوظبي، ويعتبر أحمد بن حافظ هو آخر شيوخ المالد في دبي.

شعراء مشهورون
من أهم شعراء الإمارات القدامى والمعاصرين الذين نظموا قصائد في مدح الرسول واستخدم بعضها في احتفالات المالد، الشاعر الشيخ عبدالرحمن بن حافظ في ثلاثينيات القرن الماضي، والشاعر محمد عبدالله الجلاف، إضافة إلى الشعراء سيف المري، وإبراهيم أبوملحة والدكتور عارف الشيخ وغيرهم، كما نظم الشاعر سالم بن علي العويس الذي عاش في النّصف الأول من القرن الماضي، قصيدة جميلة فيها معارضة لبردة البوصيري الشهيرة.

مالد السّماع والسيرة
ينقسم المالد في الإمارات إلى نوعين، الأول يطلق عليه: «مالد السّماع»، والثاني يسمّى: «مالد السيرة» أو «مالد البرزنجي»، ففي النوع الأول تستخدم الدفوف ويقام عادة بعد صلاة العشاء ويستمر حتى ساعة متأخرة من الليل، حيث يجلس الرجال في هذا النوع من الاحتفال الديني في صفّين متقابلين، ويجلس المنشد أو ما كما يسمى «النظّيم» في وسط الصف الأول، وهو صاحب الحظوة هنا والمتحكّم بأداء المجموعة، نظراً لخبرته وجمال صوته وحفظه لقصائد المديح النبوي بمختلف أنواعها وصنوفها. وأمام هذا الصف يجلس «الكورس» أو من يطلق عليهم «الرّديدة» الذين يدوْزنون إيقاع الأناشيد والابتهالات، ويضفون على طقس المالد روحاً تفاعلية تشيع نمطاً إيقاعياً جميلاً وآسراً.

تواشيح ومدائح
يبدأ حفل المالد السّماعي ببعض التواشيح من المدائح النبوية، والتي عادة ما تكون لشعراء متصوفة أو أبياتاً من بردة البوصيري أو قصائد حسان بن ثابت وغيرهم. ويبدأ الإنشاد الجماعي من الصف الأول بقرع الدفوف، بينما يبدأ الصف المقابل بأداء عدة حركات جسدية، فيرفعون الجسد إلى أعلى رافعين أياديهم فيما يشبه الدعاء والتطلع للأنوار السماوية، ثم يهبطون إلى الأسفل بما يشبه السجود، ثم يميلون إلى اليمين وإلى اليسار، وكأنهم يستميلون بحركة الأجساد ما استعصت إمالته على نطق الكلمات. أما النوع الثاني من طقس المالد وهو المعنيّ بمولد السيرة فتُقرأ فيه سيرة النبي كاملة من كتاب «سيرة البرزنجي»، كما تقرأ أناشيد المولد نظماً ونثراً وتنتهي بأدعية ختم القرآن الكريم، وبعد الانتهاء من قراءة السيرة تؤدى فصول أخرى عبارة عن مدائح نبوية وتكون غالباً من الشعر الصوفي.