منى الحمودي (أبوظبي) 

شهد الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، المحاضرة الرمضانية الثانية التي نظمها «مجلس محمد بن زايد»، تحت عنوان «الأمن والاستقرار في عالمنا المتغير.. من منظور دولة الإمارات» في جامع الشيخ زايد في أبوظبي. 
قدم المحاضرة، معالي الدكتور أنور بن محمد قرقاش المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، وتناول فيها محاور رئيسة عدة شملت، الأمن والاستقرار في عالمنا المتغير، وما يعنيه ذلك لدولة الإمارات، والنموذج الإماراتي التنموي في ظل المتغيرات الدولية، وكيفية التعامل مع التحديات الراهنة، وأبرز التطورات الرئيسة الحاصلة في النظام الدولي والتحولات المرتبطة به، بجانب الرهان على التعاون والحوار لتعزيز الاستقرار والازدهار في المنطقة، والانفتاح على التغيرات في النظام الدولي والإقليمي وفق المصالح الوطنية العليا لدولة الإمارات.
وتوجه معالي الدكتور أنور قرقاش في بداية حديثه بالشكر الجزيل للقائمين على مجلس محمد بن زايد لإتاحتهم فرصة الحديث له، والتواجد في مجلس «يحمل اسم قائد طموح ورجل وطني حريص على تطور ونهضة الإمارات، وزعيم ُمهتم بفتح مسارات تبادل الرؤى والأفكار والمعرفة حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية».
وقال معاليه: «غني عن البيان أن أحد أهم مكونات نجاح مسيرتنا في دولة الإمارات هو القيادة المخلصة والحكيمة والطموحة على سنوات، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، امتداد لسيرة والده المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، طيب الله ثراه، وسيرة أسرته الكريمة».
وأضاف معاليه: «قبل أشهر قليلة احتفلنا باليوم الوطني الخمسين لدولة الإمارات، واحتفالنا لم يكن رمزياً بقدر ما كان احتفالاً بإنجازات عظيمة تمكنا من تحقيقها نتيجة كفاح وعزيمة امتدت لخمسة عقود ورؤية قيادة مستنيرة مؤمنة بإمكانيات الإمارات وقدرات شعبها على الولوج إلى آفاق أوسع من النهضة والعلم والمعرفة».
وتابع معاليه: «رغم أن المدة الزمنية المتمثلة بخمسين عاماً تعتبر قصيرة نسبياً في عمر الدول والشعوب، إلا أن الإمارات أثبتت أن الإطار الزمني ليس عاملاً مهماً لتطور الدول وتنميتها، إذ تمكنا خلال هذه المدة من بناء دولة راسخة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتتمتع بحضور دولي مهم في القضايا الإقليمية والدولية، ولا شك أن نموذجنا التنموي بات يُحتذى به».
وذكر معاليه، أن حجم الاقتصاد لدولة الإمارات يعتبر رقماً لتبيان قصة النجاح لدولة الإمارات، والتي كان حجم اقتصادها في عام 1975 نحو 15 مليار دولار، وصل اليوم إلى قرابة 430 مليار دولار.

  • أنور قرقاش متحدثاً خلال المحاضرة

التعامل مع التحديات
لفت معالي أنور قرقاش إلى أنه على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي تحققت، لابد أن ندرك أن هناك العديد من التحديات التي يجب التعامل معها ومواجهتها للحفاظ على هذه الإنجازات، فالمحافظة على المنجز والبناء عليه تتطلب الاستمرار في الجهود وتعزيزها، خاصة أننا نعيش في عالم متغيّر وإقليم صعب، ولعل سر نجاح الإمارات يكُمن في قدرتها على قراءة التحديات جيداً، وتحويلها إلى فرص والتعامل معها بواقعية وعقلانية بعيدة بعيداً عن الانغلاق والتموضع السلبي.
وأشار معاليه إلى أن المنطقة تواجه تحديات عديدة، ولعل الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الإمارات في 17 يناير من هذا العام مثال على ذلك، والعبرة أن الوطن يأتي أولاً ومصلحة الإمارات هي فوق أي اعتبار آخر، فالأزمات كما أنها مؤشر على القدرات فهي كذلك مفصلية في القرارات والتوجهات، والبوصلة دائماً هي المصلحة الوطنية.
وقال معاليه: «إن أمر مواجهة الإمارات للهجمات الإرهابية بقدراتها الوطنية استلزم مراجعة طبيعة علاقتنا وتحالفاتنا وتحديد مصداقية هذه الارتباطات في ظل حقائق كنا ندركها، وهي أن المنطقة صعبة، وأصبحت أكثر تعقيداً في ظل ظواهر جديدة مثل انتشار الميليشيات وتحولات في العتاد العسكري، مع تزايد خطر الصواريخ والمسيّرات واستمرار الاحتقان والتصعيد الإقليمي».
وأضاف: «من هنا نعود للثنائية الضرورية للأمن والازدهار نحمي ونبني، وكل ذلك ضمن رؤية لا تتهاون في تقديم المصلحة الوطنية الإماراتية فوق كل اعتبار، وأن أمر الأمن والاستقرار في منطقة مثل منطقتنا، بما تحمله من أزمات وصراعات وارتباطات عالمية، يمثل تحدياً رئيساً يفرض علينا العديد من المسؤوليات تجاه الوطن وضمان مسيرته في هذه الفترة الصعبة، لذلك لابد من قراءة التحولات والتغيرات في المشهد العالمي قراءة دقيقة، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن المصلحة الوطنية هي الأولوية الرئيسة بغض النظر عن الظروف والحسابات المختلفة».
وتابع معاليه: «من هذا المنطلق، فإنه لا يخفى عليكم أن سياسة دولة الإمارات للتعامل مع الفرص والتحديات في العقود المقبلة تقوم أساساً على البناء الداخلي، وتحصين الوطن من خلال وجود مؤسسة عسكرية كفؤة ومهنية وتتمتع بقدرات احترافية وبناء علاقات وشراكات ذات مصداقية، والتركيز على التنمية الاقتصادية، وبالتالي فإن سياستنا الخارجية ستركز على بناء الجسور وإدارة الخلافات وبناء الشراكات على أساس إمارات مزدهرة في إقليم مستقر».

الأمن والاستقرار
أوضح معالي أنور قرقاش أن التغيير صفة أساسية في عالمنا، وهذا التغيير من الطبيعي أن يفرض نفسه على الأمن والاستقرار، وهما الركيزة الرئيسة للتنمية، فلا تنمية بلا أمن واستقرار، وأن الحديث عن التغيير في العالم يعني بالضرورة الحديث عن النظام الدولي، ومن هذا الواقع لابد لنا في دولة الإمارات من رصد حثيث ودقيق لتحولات الأساسية في النظام الدولي وانعكاساته على النظام الإقليمي، والذي تمثله الدول الخليجية والعربية، إضافة إلى دول الجوار مثل إيران، وتركيا والباكستان والهند. 
وقال معاليه: «لابد من الإشارة إلى أنه بات من المتعارف عليه أن النظام الدولي نظام متعدد القطبية في المرحلة المقبلة، بمعنى أنه نظام لا يتحكم به بلد بعينه، ومن المتوقع أن يستمر هذا التوجه مستقبلاً بحسب القراءات العديدة للنظام السياسي العالمي».

تحولات النظام الدولي
استعرض معالي أنور قرقاش خلال حديثه ست ملاحظات رئيسة حول النظام الدولي، والتحولات المرتبطة به، وهي أن الأزمة الأوكرانية العميقة والممتدة، والتي تهدد بالتصعيد الأفقي والعمودي، هي أزمة رئيسة سيكون لها تداعياتها الخطيرة على النظام الدولي، وسيكون العالم أكثر اضطراباً وأقل استقراراً، ومن المهم أن ندعو جميعاً لوقف إطلاق النار، والوصول إلى حل سياسي سريع لتفادي المزيد من التداعيات الجسيمة، لافتاً إلى أن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة في نظام دولي تعود على الأزمات العنيفة وغير العنيفة، وأن العالم مازال يتعايش مع أزمة الجائحة الصحية، وبالتالي فإن طبيعة النظام الدولي المتأزمة مستمرة معنا، وتمثل أحد المكونات الأساسية للعالم المعاصر، وعليه فإن حسن الإدارة ضروري وتحصين الوطن والمنطقة من الأزمات أو على الأقل تخفيف ومعالجة حدتها جزء رئيس من المشهد الحالي والمقبل.
وذكر معاليه الملاحظة الثانية وتتعلق بأن الأزمات مستمرة، لذلك فإن التغيير هو القاعدة في النظام الدولي، وقد يكون التغيير بسبب حدث سياسي، أو اختراق علمي أو تحول اقتصادي، وهذه التحولات والمتغيرات مترابطة فيما بينها بحيث ينتج عنها تحولات أوسع في طبيعة وكينونة النظام الدولي، وهناك أمثلة عديدة على هذه التحولات التي نشهدها حالياً في مرحلة المخاض العالمي نحو نظام متعدد الأقطاب، بعيداً عن حالة التفرد والزعامة الأحادية لهذا النظام.
وذكر معاليه أن من الأمثلة، هي الهيمنة الأميركية على النظام الدولي والتي تعتبر ظاهرة تاريخية حديثة نسبياً، وهي اليوم تمر في حالة أشبه ما تكون بالاختبار، في ظل بروز قوة أخرى طامحة لمنافسة الزعامة الأميركية، وهي ليست بالضرورة منافسة سياسة أو عسكرية، بل في شق كبير منها اقتصادية وعلمية، فالواقع السياسي يشير إلى أن العديد من الدول تسعى لتغيير لهذا الواقع.

  • جانب من الحضور

وأشار معاليه، إلى مثال آخر حول التحولات في الثورة الصناعية، فكما هو معروف فإن الثورة الصناعية الأولى، وما تلاها من ثورات غيرت مجرى الحياة، وأثرت بشكل مباشر على البشرية بكافة نواحيها، واليوم نشهد ثورة جديدة وهي الثورة الرقمية المستندة إلى العلوم والتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي والروبوتات، وهذا التحولات الصناعية كافة أثرت وتؤثر على العالم الذي أصبح أكثر ترابطاً بحيث لا يمكن فصل الدول عن بعضها جغرافياً أو ديمغرافياً، وبالتالي من الطبيعي انعكاس ذلك كله على طبيعة النظام الدولي.
بالإضافة إلى ذلك الصعود الصيني، إذ تمثل الصين اليوم قوة صاعدة وعملاقاً اقتصادياً من الصعب كبح جماحه، إذ ترى الصين بأنها أصبحت مهيأة ولديها من القدرات والإمكانات ما يؤهلها لأن تكون قطباً عالمياً ومنافساً لمبدأ الهيمنة الأميركية، وهنا بات من الواضح أن الصين تمكنت من تعزيز نفوذها ومكانتها في العديد من مناطق العالم، خاصة وأنها تمتلك أدوات العصر المتمثلة بقوة الاقتصاد. 
وأخيراً.. التفوق التكنولوجي، وبرغم أن التوجه السياسي الصيني في النظام الدولي ليس واضحاً بشكل كامل، إلا أن الثقل الاقتصادي والعلمي يشير إلى الدور الصيني المتنامي في العالم.

النظرة الشمولية
قال معالي أنور قرقاش في الملاحظة الثالثة إنه من المهم عند الحديث عن التحولات في النظام الدولي من النظر إليها نظرة شمولية غير مرتبطة فقط بالبعد السياسي، فالنظام الدولي هو مجموعة متوازية ومتشابكة من العلاقات والارتباطات وأبرزها القدرات العسكرية، والإمكانيات الاقتصادية والتقدم العلمي والتكنولوجي. 
وأضاف معاليه: «للتدليل على الترابط والنظرة الشمولية للنظام الدولي نعود إلى الوراء لنرى أن بناء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ارتبط ببناء نظام اقتصادي مالي عرف باتفاقية «بريتون وودز» عام1944، والتي أفرزت في هذا الجانب هيمنة الدولار، كما نرى أن ثورة النفط في منتصف السبعينيات لعبت دوراً في تحول النظام الدولي، ولا شك أن صعود نمور آسيا لعب دوراً محورياً في تغيير التوازن الاقتصادي الدولي بين الشرق والغرب».
وقال: «في تقديري، فإن الجائحة الصحية الحالية كوفيد 19 سيكون لها تأثير على التحولات في عالمنا المعاصر، وبالتالي يجب ألا تقتصر الرؤية على البعد السياسي للنظام الدولي، والذي ارتبط تقليدياً بالحسابات الجيواستراتيجية والأمنية».
وفي ملاحظته الثالثة قال معاليه، إنه بات من الواضح أن النظام الدولي أصبح أقل غربياً مما كان عليه في العقود الماضية، وإذا عدنا إلى الفواصل التاريخية في صياغة النظام الدولي كمؤتمر «فيينا 1815» بعد الحروب النابليونية و«معاهدة فرساي 1919»، بعد الحرب العالمية الأولى، ومؤتمر «يالطا1944» والذي قسم مناطق النفوذ في الحرب العالمية الثانية، فسنجد أنها جميعها تعكس خططاً غربية أعادت صياغة النظام الدولي، والذي كان نظاماً غربياً صرفاً خلال القرنين الماضيين.
وأكد معاليه أن العالم اليوم أصبح أقل غربياً بفعل العديد من التطورات السياسية والاقتصادية والعلمية من حركات التحرر الوطني إلى نهضة آسيا الاقتصادية إلى ثورة الطاقة، ويشهد نهضة دول كانت ضعيفة أو مستعمرة مثل الصين والهند، وأصبحت الآن في صلب النظام الدولي، ولها من الثقل ما يؤهلها للعب دور رئيس في القضايا والملفات الدولية، وصياغة النظام الدولي الجديد الذي نعيش فترة مخاضه حالياً.
وبين معالي أنور قرقاش في الملاحظة الخامسة، أن هناك محاولة من قبل العديد من السياسيين الغربيين لتأطير عالمنا المعاصر أيدولوجياً باعتباره ثنائياً ومنقسماً بين أنظمة ديمقراطية وأخرى استبدادية، وأن هذه المقاربة مرفوضة وغير مقبولة، وتمثل جزءاً من الدعاية الغربية ومحاولة للتمسك بنظام دولي غربي التوجه، ورافض للحقائق المحيطة. منوهاً بأن التنوع الكبير في عالمنا والتجارب التاريخية المتباينة ترفض هذا المنطق فما يصلح لدولة ما، ليس بالضرورة أن يصلح لدولة أخرى، فلكل دولة أطرها وثقافتها وإمكانياتها وقدراتها بحيث تبني نموذجها بناء على واقعها بعيداً عن الاستنساخ الذي أثبت أن ضرره أكثر بكثير من نفعه.
وقال «لا يُخفى أن محاولة فرض هذه الرؤية خلال فترة ما عُرف بالربيع العربي والتي كانت كارثية على العرب وأوطانهم وجاءت التجربة ممزقة للدولة الوطنية أو هزيلة لا يُعتد بها».

  • كوادر نسائية خلال المحاضرة

وأضاف: «في هذا التنوع يبرز موضوع الحوكمة والذي يشمل فاعلية المؤسسات والعدالة والاستقرار ومجموعة من القيم التي تتسق مع تجربة الدول وتساعدها في إدراك طموحها للتنمية والتقدم، وهنا نرى دولة الإمارات وفي إطار تعزيز موقعها الإقليمي والدولي حريصة على الحوكمة، سواء على مستوى تعزيز دولة القانون والشفافية، والتصدي للفساد وتبني قيم التسامح وتعزيزها، وما نراه من ثقة الناس في قيادتهم وحكومتهم ما هو إلا انعكاس لذلك».
وذكر معالي أنور قرقاش خلال الملاحظة السادسة، أنه تقليداً كانت محاور النظام الدولي سياسية في الغالب، واقتصادية إلى حد ما، ولعب القانون الدولي والقوة العسكرية والاعتبارات الجيوسياسية الدور الرئيس في تحديدها، ولكن باتت الهموم والتحديات غير السياسية تلعب دوراً رئيساً في تحديد شكل وتغييرات النظام الدولي وملف التغير المناخي والطاقة المستدامة والصحة العالمية، وما هي إلا دليل على ذلك. 
وقال: «في تقديري، هي تكشف الهوة الكبيرة بين الدول النامية والأقل نمواً وكذلك تعتبر حافزاً ودعوة للتعاون بسبب الطبيعة العالمية للتحدي، وفي هذا الجانب نرى أداءً إماراتياً جيداً في هذه الملفات، واستعداداً مبكراً وريادة إقليمية، وأشير هنا إلى استعدادنا لاستضافة مؤتمر المناخ الدولي 2023».

واقع الإمارات
أكد معالي أنور قرقاش أن النظام الدولي يشتمل على أنظمة إقليمية تلعب دورها في بلورة وتحولات النظام الدولي، وواقع الإمارات أنها تعمل وتتحرك ضمن دائرة النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وهو من ضمن أكثر الأنظمة الإقليمية اضطراباً، وجميع المؤشرات تشير إلى أن النظام الشرق أوسطي سيستمر في مثل هذا الاضطراب، وبالتالي فإن إدارة مصالحنا الوطنية تتطلب الحكمة وتغليب الدبلوماسية، كما أنها تتطلب العمل على المشترك على حساب جوانب الاختلاف، أي أن ندعو إلى أجندة ازدهار للمنطقة، كما ندعو إلى أجندة أمن واستقرار.
وقال معاليه: «إن الملاحظات الست التي أضع في عين الاعتبار الأزمة الأوكرانية، أن التغيير هو القاعدة في النظام الدولي وشموليته، وعدم اقتصاره على البعد السياسي وأنه أصبح أقل غربياً ومحاولة تأطير العالم بين قسمين ديمقراطي واستبدادي، وبروز ملفات جديدة تلعب دوراً رئيساً في تحديد شكل هذا النظام».
وأضاف معاليه: «إن هذه الملاحظات تجعل من الضروري والمهم للإمارات كونها دولة متوسطة الحجم وأحد أكبر اقتصادات الشرق الأوسط أن تتابع هذه التغيرات في النظام الدولي، وأن تُكيف سياستها وتتكيف مع التحولات العالمية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التحدي الرئيس يكمن في التوازن الدقيق بين المحافظة على القيم والثوابت بالتزامن مع الانفتاح على العالم والثورة التكنولوجية، فالإمارات دولة عربية مسلمة ذات تقاليد راسخة، ولكنها في ذات الوقت استفادت بشكل كبير من التطورات التي تحققت نتيجة عولمة النظام الدولي، وذلك عبر تبنيها لنموذج يمزج بين الثوابت والقيم وبين الانفتاح دون تبني نموذج على حساب آخر، ومن الضروري الاستمرار في هذا الاتجاه الذي حقق نجاحاً لافتاً».
وتابع معاليه: «من المعروف عن الإمارات أنها دولة لا تتباهى بالخط التنموي المتقدم الذي تبنته، ولكنها حقيقة واقعية فعبر الثلاثين سنة الماضية تمكنت الدولة من إرساء المعايير الاقتصادية والتنموية المتقدمة في المنطقة، وكانت من أوائل الدول النفطية التي بدأت عملية تنويع مصادر الدخل، والابتعاد عن نموذج الدولة الريعية، وهي مستمرة في ريادتها، وتعتبر المشاريع الاستراتيجية النووية والفضائية دليلاً على ذلك، ومن هذا المنطلق فإن تعزيز ثقلها الاقتصادي في المرحلة المقبلة هو تعزيز لمكانتها وموقعها ودورها.

أهمية التكتل الجماعي
أكد معالي أنور قرقاش أن الأمن والاستقرار مرتبط بشكل وثيق بالتغير في العالم، ولضمان قوة تأثيرنا وتعظيم استفادتنا من عملية التغيير والتحولات المرافقة له لا بد لنا من إدراك أهمية التكتل والعمل الجماعي والتحرك بشكل جماعي، سواء الكتلة الخليجية أو العربية، فالواقع السياسي الدولي يؤكد أن التحرك الجماعي هو الأقدر على التأثير الإيجابي وتقليل الآثار السلبية. 
وقال: «على الرغم من أن التحرك الجماعي في منطقتنا شابه الكثير من التعثر نتيجة العديد من الأمور إلا أن هذا التوجه يبقى خياراً ضرورياً ومهماً، ولا يمكن الابتعاد عنه بناء على تجارب سابقة. كما لا بد لنا في ظل التطورات الحاصلة في المنطقة من إدارة الأمور بحكمة وعقلانية مع الدول التي لديها سياسات ووجهات نظر مختلفة، وذلك عبر البناء على المشتركات وتقويتها، دون التركيز على نقاط الاختلاف باعتبارها حاجزاً يمنع الحوار والتعاون في النقاط المتفق عليها، فنحن نرى إيران جارة، لذلك نسعى إلى بناء أفضل العلاقات معها، كما نرى تركيا شريكاً في بحثنا المشترك عن الازدهار، ومستمرون في دعم آفاق الاتفاق الإبراهيمي، ولن تكون الإمارات طرفاً أو شريكاً في الإضرار بأي من جيرانها وأخص بالذكر إيران، حيث سنلجأ دائما إلى الدبلوماسية والحوار والتعاون الاقتصادي..

  • أنور قرقاش متحدثاً للحضور

ترسيخ المفاهيم
أفاد معالي أنور قرقاش، بأن في ظل التغيرات التي تطرأ على النظام الدولي لا بد من ترسيخ مفاهيم تساهم في استقرار النظام الإقليمي، وعلى رأسها احترام سيادة الدول والرفض المطلق لاستخدام القوة في العلاقات الإقليمية، ورفض دور الميليشيات المسلحة خارج إطار الدولة الوطنية، والتعاون الإقليمي لتعزيز الاستقرار والازدهار المشترك، وبناء منصات إقليمية لتعزيز الحوار والتعاون الإقليمي الاقتصادي والاستثماري المتعدد الأطراف. وهذا فإن خيارنا يجب أن يكون مفتوحاً وبعيداً عن الانغلاق، بحيث تكون مصلحتنا الوطنية وضمان الأمن والاستقرار في المنطقة هي البوصلة التي تحدد خياراتنا وتوجهاتنا في ظل التحول الكبير في العالم، بحيث نتمكن من الموازنة بين الشرق والغرب والحفاظ على الصداقات القائمة وبناء صداقات وشراكات أخرى بعيداً عن سياسة التموضع. 
وأضاف معاليه: «على صعيد البناء الداخلي فإن الحفاظ على تنافسيتنا الاقتصادية يبقى خياراً رئيساً، وضامناً مهماً لمواصلة نموذجنا التنموي، إذ تمكنت الإمارات من ترسيخ مكانتها باعتبارها مركزاً متقدماً وبيئة اقتصادية واستثمارية بمعايير عالمية، وفي هذا الجانب فإن سعي الإمارات لرفع تنافسية المنطقة بشكل شمولي هو سعي لتعزيز مكانة وثقل المنطقة في النظام الدولي، وتقليل الارتدادات السلبية التي قد تنشأ عن المعطيات الدولية الجارية حالياً».

ترابط التحولات
في ختام حديثه، أكد معالي أنور قرقاش أن التحولات والتغيرات التي يشهدها العالم هي تغيرات مترابطة ومتداخلة، وستفرز آثارها سلباً أو إيجاباً على مختلف دول العالم، وعلى الأمن والاستقرار الدولي والإقليمي، ومن هذا المنطلق فإن هذه التغيرات بقدر ما تحمله من تحديات، فإنها تحمل في ذات الوقت فرصاً وآفاقاً أوسع للتطور والتنمية، لذلك فإن المصلحة الوطنية ستبقى هي الموجه الرئيس لتعاملنا مع هذا المشهد العالمي، بحيث نعزز مكانة الدولة وثقلها السياسي والاقتصادي في المنطقة والعالم، وذلك عبر الانفتاح على التحولات بروح العزيمة والتحدي التي ميزت تجربتنا على مدار العقود الخمسة الماضية، وأن نكون جزءاً من صناعة الحدث والاستعداد لنتائجه لتعظيم استفادتنا وضمان مصالحنا الوطنية.
كما نوه معاليه بأن في الوقت الذي يشهد فيه العالم تغيرات جوهرية في «ميكانيزمات» النظام الدولي فإن المنطقة تشهد تغيرات وتطورات مهمة في مقدمتها السعي نحو تعزيز فرص السلام والاستقرار وخفض التصعيد والانفتاح بين دول الإقليم بعيداً عن الخلفيات التاريخية التي عززت الصراعات والنزاعات على مدى العقود الماضية، ولعل هذا التوجه يمثل الأداة الأفضل لمواجهة ما يحدث على الصعيد العالمي، وبناء نموذجنا الإقليمي الخاص بنا، والذي يمثل رهاناً مهماً لضمان أمن واستقرار المنطقة وتنميتها وازدهارها، وأنه على الرغم من التطورات التكنولوجية الهائلة والراسخة في القرن 21 إلا أن العالم والنظام الدولي الحالي ما زال يدار بعقلية القرن التاسع عشر وأيديولوجياته، وهذا هو ما نراه في العديد من فصول التنافس والصراع.