السيدة خديجة رضي الله عنها، أم المؤمنين، وسيدة نساء العالمين. الطاهرة الشريفة، التي كان من نباهتها وعظيم فطنتها، أن اختارت سيد الخلق زوجاً لها، فإنه لما بلغ صلى الله عليه وسلم عامه الخامسة والعشرين، وعلمت رضي الله عنها صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، وسداد رأيه، أرسلت إليه فقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك، ليخرج تاجراً بأموالها، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فربحت الضعف أو قريباً منه. فبعثت إليه فقالت له صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك، ومنزلتك في قومك، وشدة أمانتك، وحسن خلقك، وصدق حديثك. فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فملأت بالمودة بيتها، وبالسعادة حياة زوجها، وتميزت بالحكمة في أقوالها وأفعالها، وكانت تنفق من مالها على أسرتها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتاجر لها. ولما بلغ صلى الله عليه وسلم سن الأربعين، وجاءه الوحي أول مرة، وخاف على نفسه، واحتاج إلى من يؤأزره، ثبتت رضي الله عنها جأشه، وهدأت روعه، وطمأنت بكلماتها الحكيمة قلبه، فقالت: كلا والله ما يخزيك الله أبداً. وانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، تبحث له عن تفسير لما يؤرقه، فقالت له: يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فبشره ورقة بالنبوة، فكانت السيدة خديجة رضي الله عنها أول من نزل الوحي في بيتها، وأول من أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من صلى معه عليه الصلاة والسلام.
وهي خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب القرشية، ويلتقي نسبها بالنبي صلى الله عليه وسلم في قصي بن كلاب، ولقد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم:«إني قد رزقت حبها». وذلك لرجاحة عقلها، وتمسكها بدينها، وجميل ودها، وطيب حديثها، وعنايتها بزوجها، وبذلها مالها، وصبرها على ما أصابها، بنفس راضية، واثقة مؤمنة، ورزق الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم منها القاسم وعبدالله، وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. فكانت رضي الله عنها أماً رحيمة، ووالدة كريمة، تعتني بأبنائها وبناتها، ولا تدخر وسعا في إسعادهم، وإدخال السرور على قلوبهم، فعند زواج ابنتها السيدة زينب رضي الله عنها، أهدتها قلادة ثمينة لتدخل بها على زوجها أبي العاص. ولحرص السيدة خديجة رضي الله عنها على أن تجعل من بيتها جنة لأسرتها، نزل جبريل عليه السلام يبشرها ببيتها في الجنة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:«هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب». أي: ببيت من لؤلؤة مجوفة.
 وذلك لأنها أزالت عن زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير. واستحقت أن تكون من أفضل نساء أهل الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة رضي الله عنها أثنى عليها وقال:«قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء». وهذا دليل على حفظ ود الزوجة، وإكرام أهلها، في حياتها وبعد وفاتها فما أجمل أن يتأسى الأزواج بالنبي صلى الله عليه وسلم في الوفاء لزوجاته، وتتأسى الزوجات بسير أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ويقتدين بهن، ويسرن على دربهن.