لمياء الهرمودي (الشارقة)
تولي الإمارات اهتماماً كبيراً بتعزيز ودعم الصحة النفسية للمواطنين والمقيمين، وتعتبره أولوية وجانباً مهماً وجوهرياً، إذ تستثمر فيه بشكل مستدام، خاصة في ظل جائحة كوفيد- 19، لبناء مجتمع مترابط، ومبني على أسس نفسية وصحية قوية ومتماسكة، تحفظ له مكانة رائدة على مستوى العالم وفي المستقبل، حيث يؤكد الأطباء أن المرض النفسي هو ذهني ويؤثر تأثيراً كبيراً على قدرة الإنسان على العمل والإنتاج والتعامل مع الظروف الحياتية. وأكثر الأمراض النفسية شيوعاً هو الاكتئاب والقلق النفسي، الذي يصيب النساء عادة أكثر من الرجال، حيث تعاني سيدة واحدة من بين كل 10 سيدات على مستوى العالم من الاكتئاب في مرحلة عمرية من مراحل حياتها.
وقال الدكتور حسين عبد الرحمن الرند الوكيل المساعد لقطاع الصحة العامة بوزارة الصحة ووقاية المجتمع: «إن تعزيز الصحة النفسية الجيدة محور رئيسي للعمل الحكومي بالدولة، وهو مكون رئيسي لأطر العمل الاستراتيجية والتشغيلية الرامية لتعزيز الرفاه الصحي لمجتمع دولة الإمارات العربية المتحدة. حيث إن الصحة النفسية الجيدة هي الشق الأول لمحور الصحة في الاستراتيجية الوطنية لجودة الحياة 2031، كما أن الوقاية والعلاج وتعزيز الصحة النفسية وجودة الحياة مدرجة ضمن أهداف التنمية المستدامة 2030 للدولة».
تدابير
وأكد الرند أن الوزارة والشركاء من القطاع الصحي والاجتماعي تبنت أفضل التدابير لتحسين الصحة النفسية لمجتمع الإمارات خلال جائحة كوفيد-19 من خلال حزمة من المبادرات التعزيزية والوقائية والخدمية لتعزيز الصحة النفسية. حيث حرصت الوزارة على تضافر الجهود من أجل تسهيل الوصول إلى خدمات الصحة النفسية وضمان استمراريتها وجودتها. كما ساهمت الحلول الرقمية في مجال الصحة النفسية وخدمات التطبب عن بُعد في تقديم الاستشارات والدعم النفسي وخدمات الطب النفسي لجميع أفراد المجتمع، لتخفيف الآثار النفسية السلبية الناتجة عن الجائحة كالقلق والتوتر.
وأشار إلى أن السياسة الوطنية للصحة النفسية وضعت نهجاً شموليا لضمان أفضل مستويات الصحة النفسية بمجتمع الإمارات، من خلال شراكات متعددة القطاعات والمستويات وأهداف استراتيجية طموحة. ويتم دورياً تحديث الخطة التنفيذية للسياسة من خلال إدراج مجموعة واسعة من المبادرات التعزيزية والوقائية والعلاجية الفعالة والمبتكرة، الرامية إلى تطوير وتعزيز وتوسيع نطاق خدمات الصحة النفسية الشاملة والمتكاملة والمستجيبة لاحتياجات كافة فئات المجتمع، ووقاية كافة الفئات العمرية من مختلف الاضطرابات النفسية، علاوة على رفع القدرات وإجراء البحوث الخاصة بالصحة النفسية.
وقال: خلال الاجتماع الأول للجنة بحضور الأعضاء من الوزارات والهيئات والدوائر والمؤسسات الصحية والاجتماعية والداعمة، تم التركيز بشكل رئيسي على ضرورة تضافر الجهود بين الشركاء لتحفيز وتسريع مبادرات الصحة النفسية ولخلق بيئات داعمة للصحة النفسية الجيدة. بالإضافة إلى تبني المبادرات الاستباقية لنشر ثقافة الصحة النفسية الجيدة والتوعية بالمفاهيم الأساسية للصحة النفسية لدى المجتمع، وتقليل الوصمة المتعلقة بالاضطرابات النفسية من خلال رفع الوعي المجتمعي بدور الصحة النفسية وأثرها على رفاهية المجتمع وجودة حياتهم.
استراتيجية شاملة
من جهتها، أكدت الدكتورة نور المهيري مدير إدارة الصحة النفسية في مؤسسة الإمارات للخدمات الصحية، أن المؤسسة تتولى تقديم خدمات الصحة النفسية وتطبق استراتيجية شاملة ومتكاملة لخدمات الصحة النفسية بكافة مكوناتها وتضمن استدامتها، بالإضافة لوضع البرامج اللازمة لتطويرها والارتقاء بها كوجهات عالمية للسياحة الصحية والاستثمار.
وقالت: تقدم المؤسسة خدمات الصحة النفسية المجتمعية التي تعكس نهج الرعاية الشاملة من خلال فريق متعدد التخصصات يتضمن التدخلات البيولوجية والنفسية والاجتماعية ويستند إلى الأدلة وأفضل الممارسات الدولية ذات الصلة، بالإضافة إلى تقديم خدمات الصحة النفسية المتكاملة والشاملة الوقائية، العلاجية والتأهيلية لجميع فئات المجتمع، كما تقوم بتسهيل الوصول للخدمات النفسية من خلال تعزيز برامج الكشف والتدخل المبكر المبتكرة، فضلاً عن إنشاء شراكات فعالة مع جميع أصحاب المصلحة لتحقيق أهداف رفاهية المجتمع المشتركة، وبناء وتطوير كفاءات العاملين في الرعاية الأولية لتقديم خدمات الصحة النفسية المجتمعية من خلال التدريب والإشراف المستمر.
وأضافت: «تتضمن خدمات الزيارة للحالات المزمنة غير المستقرة من أجل إبقائهم بصحة مستقرة في بيئتهم، والتأكد من التزام المريض بأخذ العلاج، وتقليل نسبة الانتكاسة، ومساعدة أسر المرضى في العناية بالمرضى النفسيين وتقليل الضغوط النفسية عليهم. وقد بلغ عدد الزيارات المنزلية في 2021 إلى أكثر من 900 زيارة. كما تقدم المؤسسة خدمة التدخل الطارئ وتقديم الدعم النفسي خلال الأزمات بالمستشفيات العامة المقدمة للصحة النفسية ومستشفى الأمل للصحة النفسية على مدار24/7، في دبي والإمارات الشمالية. وقد بلغ عدد التدخلات من قبل فرق التدخل المتنقل خلال الأزمات في 2021 أكثر من 100 تدخل. وتقدم المؤسسة من خلال مركز خدمة الرعاية النهارية، برامج التأهيل النفسي والاجتماعي والمهني للحالات المزمنة من المرضى المقيمين والمراجعين في مستشفى الأمل للصحة النفسية، وبلغ عدد المستفيدين من مراكز الرعاية النهارية في 2021 أكثر من 140 مستفيداً، في حين بلغ عدد الجلسات العلاجية لإعادة التأهيل إلى نحو 900 جلسة في نفس العام».
وتابعت: «تعتبر مبادرة «تحدث لنسمعك» التي تقدمها المؤسسة من خلال خط المساعدة للاستشارات النفسية والدعم النفسي لكافة الجمهور من أهم المبادرات التي أطلقتها المؤسسة، حيث تقدم الخدمة من قبل أخصائيين نفسيين مدربين وفق سياسة معتمدة تضمن السلامة والجودة، ويتم تصنيف الاستشارات حسب درجة الاستعجال والخطورة، ويتم إحالتها إلى عيادة التطبيب النفسي عن بعد لمقابلة الطبيب النفسي إن لزم الأمر، أو توجيهها لقسم الطوارئ بالمستشفى، وقد بلغ عدد الاستشارات النفسية على الخط الساخن إلى أكثر من 4000 استشارة، وبلغ عدد المستفيدين من خدمة التطبيب عن بعد نحو 10 آلاف مستفيد، من 2020 إلى 2021، وشمل ذلك أيضًا عيادات افتراضية لبرامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي لاضطرابات الإدمان وجلسات علاج التخاطب الافتراضية للأطفال الذين يعانون من اضطرابات في النمو».
برامج تدريبية
وأكدت أنه تم طرح برامج تدريبية متخصصة في مجالات» الرعاية الصحية النفسية الأولية للعاملين في الرعاية الصحية الأولية، بالتنسيق والتعاون مع الجهات الأكاديمية والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، حيث تم تدريب 150طبيباً ومقدمي الرعاية الصحية، كما تم دمج خدمات الصحة النفسية في 39 مركزاً في الرعاية الصحية الأولية. بالإضافة إلى تفعيل 4 مراكز للصحة النفسية المجتمعية التخصصية وتشمل: مركز تعزيز صحة الأسرة بالشارقة مركز معيريض في رأس الخيمة، ومركز الصحة النفسية المجتمعية الذكي بمركز الخزان بأم القيوين، ومركز الصحة النفسية المجتمعية الذكي بمركز المدينة في الفجيرة. هذا وتم إطلاق شبكة العيادات الإلكترونية للصحة النفسية المجتمعية لمستشفى الأمل للصحة النفسية في مراكز الرعاية الأولية، وهي خدمة مشتركة بين مستشفى الأمل للصحة النفسية ومراكز الرعاية الأولية ذات الصلة، حيث يشارك عدد محدد من أطباء الأسرة في الرعاية الأولية والعاملين الصحيين في تقديم الرعاية النفسية المجتمعية للمرضى النفسيين تحت إشراف وقيادة الطبيب والفريق النفسي في مستشفى الأمل، وبلغ عدد الاستشارات النفسية والزيارات في العيادات الخارجية لعام 2021 نحو 44 ألفاً و380 استشارة.
مفتاح العلاقات
بدوره، أكد الدكتور حميد الحاج بروفسور واستشاري الطب النفسي في المستشفى الجامعي في الشارقة، أن ما قد يثير الدهشة عند الكثيرين أن الصحة النفسية لا تعتني بالأمراض النفسية فحسب، وإنما يدخل في أساسياتها فهم المشاعر والتفكير والتواصل والتعلم واحترام ومحبة الذات، لذلك تعد الصحة النفسية مفتاحاً للعلاقات السليمة مع أنفسنا ومع الآخرين للحصول على الرفاهية الشخصية والعاطفية والمساهمة الفعالة في المجتمع حولنا. ولا يحسبن المرء أن الصحة النفسية أمر خارج بالكلية عن سيطرة الإنسان، لأن الدراسات العلمية تظهر قدرتنا على تطوير وتحسين صحتنا النفسية والجسدية باتباع منهج صحي متكامل بدعم واستشارة من قبل الاختصاصيين في هذا المجال.
وقال: يمر العالم بأزمات وشدائد لم يشهدها من قبل سواء ما يرتبط بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى أو ما يتعلق بجائحة كوفيد-19، وما ترافق معها من تأثيرات مقلقة. وبتوفيق من الله فإن دولة الإمارات العربية المتحدة كانت سباقة عالمياً في اتخاذ الإجراءات الوقائية للقضاء أكثر ما يمكن على هذا الفيروس المؤذي عن طريق برنامج لقاح رائع. ويبقى التحدي الكبير لنا جميعاً بكيفية التخلص من آثار الجائحة على صحتنا النفسية وسلامتنا الاجتماعية. إن هذه التحديات قد تؤدي إلى شدات نفسية مما يؤثر على صحتنا النفسية، والجسدية التي هي مرتبطة ببعضها بشكل وثيق. فكل ما يؤذينا نفسياً يمكن أن يؤذينا جسدياً، ويزيد من أمراض القلب والضغط والسكري، والسكتات الدماغية كما أن الكثير من الأمراض العضوية تترافق بمشاكل نفسية كالاكتئاب، والقلق واضطراب النوم وقلة الشهية، وضعف التركيز والذاكرة والتوهمات، على سبيل المثال لا الحصر.
وتابع: لا نستغرب بأن الأمراض النفسية كثيرة الشيوع، وتصل إلى حوالي واحد من أربعة أشخاص حول العالم، وفي كل يوم في عملي أقابل أناساً يصابون بالتوتر والقلق والاكتئاب. وقد يشعر بعضهم أنهم فاشلون وأن الحياة ليس لها معنى، لذلك فمن الضروري جداً أن تقوم المؤسسات والمدارس بالاهتمام بصحة الموظفين والطلاب النفسية وتقديم برامج صحية تتضمن نشاطات رياضية وورشات عمل تدار من قبل اختصاصين لتعزيز المرونة النفسية، فالنشاط الجسدي، والرياضة، والاستمتاع بالحياة دواء لكثير من الأمراض النفسية والجسدية، كما أن أخذ قسط من الراحة والنوم الجيد، وممارسة التأمل وتقنية التركيز هي من الأمور الضرورية لتحقيق الطاقة الإيجابية التي هي مصدر السعادة وتحقيق الذات.
تجارب
عبر عد من أفراد المجتمع الذين أصيبوا بفيروس كوفيد-19 أو كانوا من المخالطين أو ممن فقدوا عزيزاً على قلوبهم بسبب الوباء، بأنه كانت لديهم حاجة ملحة تدعوهم للحزن، والعزلة، مما كان له دور كبير في التأثير على صحتهم الجسدية والنفسية خلال تلك الأزمة، وقالت (ل.ع.م): «أصبت العام الماضي بكوفيد- 19 وكانت حالتي الصحية دقيقة، إذ إنني أعاني من مشكلة في الرئة، وحساسية شديدة، ما دعا الأمر إلى حجزي في المستشفى لمدة أسبوع كامل، كانت تلك الأيام من أكثر الأيام التي قضيتها في حياتي صعوبة، إذ إنني في حجر كامل، ولا يمكنني التواصل جسديا مع أبنائي وعائلتي، وبالرغم من الدعم الذي تلقيته من أفراد أسرتي، والاتصالات المتواصلة، إلا أن البقاء وحيدة كان أمرا صعبا جدا، وأعتقد أنني بعد الانتهاء من فترة الحجر، والدخول في مرحلة الاستشفاء والنقاهة تغيرت، وأن بعض الأمور لم تعد كطبيعتها في السابق كمسألتي التذوق والشم، وكذلك طبيعتي النفسية، لذا اعتقد أن الحصول على جلسات افتراضية لتعزيز الدعم النفسي سيكون من الأمور الأساسية التي تسهم في مرحلة الاستشفاء، والعودة الحميدة بعد الإصابة بالوباء».
فيما أكد فيصل محمد أنه فقد شخصا عزيزا عليه العام الماضي، وهو من الأصدقاء المقربين إلى قلبه بسبب الوباء، وكان لفقده أثر كبير على نفسيته، كما أنه يشعر بالقلق على كبار السن في عائلته، وأوضح قائلا: «نحن نؤمن بقضاء الله وقدره، ولكن مشاعر القلق والتوتر قد تراود الإنسان في أي لحظة وفي أي موقف، وقد لا يستطيع التحكم بها، لذلك فإن تعزيز ثقافة الدعم النفسي أمر مهم، وجانب إنساني وثقافي وصحي يجب عدم التغاضي عنه».
نصائح
وجهت منظمة الصحة العالمية عدداً من النصائح والإرشادات التي يمكن ممارستها لتفادي أي اثر نفسي سلبي على الفرد بسبب الجائحة، مثل الاستماع إلى نصائح وتوصيات الحكومات في البلد، ومتابعة القنوات الإخبارية الموثوقة، مثل قنوات التلفزيون والراديو المحلية والوطنية، وقراءة آخر الأخبار الصادرة عن منظمة الصحة العالمية على وسائل التواصل الاجتماعي، والمحافظة على العادات اليومية بأقصى قدر ممكن، أو اكتساب عادات يومية جديدة، التعوّد على الاستيقاظ والذهاب إلى السرير في نفس الأوقات يوميا، والحفاظ على النظافة الشخصية، وتناول وجبات صحية في أوقات منتظمة، وممارسة الرياضة بانتظام، وتخصيص وقت للعمل ووقت للراحة، ووقت لممارسة الهوايات المحببة، وتجنب الإفراط في استخدام الأجهزة المزودة بالشاشات.
علاج
قالت الدكتورة هند العوضي رئيس ومؤسس شركة «جي ان اتش لايف ستايل»: نحن متخصصون في الاهتمام الكبير بتعزيز الصحة النفسية، والتي تعتبر من أهم اهتمامات الدولة، كونها سبباً رئيسياً في الحفاظ على نمط حياة صحي وسليم. نحن لا نتحدث هنا عن العلاج النفسي، بل هو مجال مغاير للحفاظ على الطاقة الإيجابية، والمقدرة على التغلب على الأزمات والظروف الحياتية التي تتسبب في رفع وتيرة التوتر، بالتالي فإن تعزيز الصحة النفسية ورفع معنويات الفرد يؤديان للوصول إلى حالة صحية إيجابية تسهم في استقرار المجتمع.
وتابعت: «الاستثمار في الصحة النفسية أمر مهم جدا ويجب أن لا يتم تجاهله من قبل الفرد أو المجتمع، ويعتبر جانباً مهماً كأهمية الصحة الجسدية، ولابد من تعزيز مرونة الصحة النفسية، من خلال مختصين وحاصلين على رخص دولية مناسبة»، مشيرة إلى أن الجلسات الافتراضية سهلت عملية الوصول والتواصل والخصوصية لكل من يحتاج لمثل هذه الجلسات.
مبادرات
خصصت الإمارات لجنة وطنية لتحسين جودة الحياة الصحية بالدولة، ووضعت خطة تنفيذية للسياسة الوطنية للصحة النفسية، وأقرت حزمة من المبادرات التعزيزية والوقائية والخدمية لتعزيز الصحة النفسية في المجتمع، وتقديم خدمات رعاية وفقاً لأفضل المعايير العالمية، والابتكار والاستدامة في دعم الصحة النفسية الجيدة ولمكافحة المخاطر النفسية كالقلق والتوتر والاكتئاب، وتقديم حلول رقمية في مجال الصحة النفسية.