حوار: إبراهيم سليم
أكد د. محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين - رئيس جامعة القاهرة أن تطوير العقل الديني، يحتاج إلى تأسيس خطاب ديني من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الديني التقليدي، إذ إن تجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد برؤية جديدة للعالم وبمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد، ولفت إلى أن المقصود هو الخطاب الديني البشري، وليس القرآن الكريم والسنة المتواترة الثابتة بيقين، حيث لا يمكن تجديد الخطاب الديني بدون تكوين عقل ديني جديد.
وقال: «نحن نعتز بدولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج للدولة الوطنية القوية والتي أنشأها زايد الخير من أول يوم على أساس راسخ من الوحدة والاتحاد الداخلي بين إماراتها المختلفة، وفي دوائر من الانتماء العربي الأصيل، وفي مسارات عالمية إنسانية، كما نعتز بالعلاقة الاستراتيجية بينها وبين مصر، خاصة أن هذه العلاقة تعد من أهم وصايا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، التي أرساها في عقل وقلب أبنائه الإماراتيين كلهم، والتي يتوارثون محبتها عبر أجيالهم المختلفة، ومحبتنا للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، تواصلت إلى أبنائه قادة الإمارات والذين يقودونها بكل اقتدار واستطاعوا أن يصلوا بها إلى مكانة إقليمية ودولية بارزة ومرموقة على أسس من السلام المبني على القوة، والتعاون الإنساني، والانفتاح العلمي والثقافي.
ودعا الخشت خلال حواره مع «الاتحاد» لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وإبراز العلوم والفنون والثقافة والآداب، مؤكداً أن تاريخنا ليس الحروب فقط، وشدد على أن الدولة الوطنية هي أرقى أشكال الدول لارتباطها بالقانون الطبيعي، وأكد أن المواجهة الشاملة لأعداء النموذج الوطني ليست أمنية وعسكرية فقط، بل ثقافية وفنية وتعليمية واجتماعية، كما لفت إلى ضرورة تغيير طرق تأليف المناهج والتدريس والامتحانات؛ لتكوين العقل المفتوح، الذي ينمو باستمرار للقضاء على العقل المغلق الجامد.
وأكد رئيس جامعة القاهرة، أن الثقافة والفنون لها دور كبير في تشكيل وجدان الأجيال.. ولا بد من الارتقاء بالفنون وتطوير صناعة السينما لتأثيرها على النموذج الإدراكي والسلوكي للشعوب، إذ إن المعركة ليست فقط مع حاملي السلاح، بل هي معركة مع العقول المغلقة التي تمت صناعتها في الزوايا ومجالس العلم المزيفة، وأكد أن هدفنا صناعة عقول مفتوحة على الإنسانية في ضوء العودة إلى المنابع الصافية للقرآن والسنة الصحيحة.
وتفصيلاً، قال الخشت الأستاذ في فلسفة الدين: «لا أؤمن بإصلاح العقل الديني القديم؛ لأن العقل الديني البشري القديم تشكل في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة»، والأبنية العقلية القديمة تلائم عصورها ولا تلائم عصرنا؛ فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة.
وأضاف أنا أؤكد على تقدير تراثنا القديم لكنني أحب «أنا وغيري» أن نصنع تراثاً جديداً نعيش فيه؛ فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول.
وأضاف: هذا ما سعينا إليه على مستوى الخطاب الديني، بيان أن كل ما جاء في التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التي أعلنها القرآن (... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ...)، «سورة المائدة: الآية 3»، إنما هو جهد بشري قابل للمراجعة، وهو في بعض الأحيان اجتهاد علمي في معرفة الحقيقة، وفي أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفي كل الأحوال - سواء أكانت موضوعية أم مغرضة - ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل آراء بشرية قابلة للنقد العلمي.
وأوضح أن العقل الديني ليس هو الدين نفسه في نقائه الأصلي، بل هو عقل بشري تكون عبر التاريخ، وإذا كان الدين في نقائه الأصلي إلهياً، فإن العقل الديني هو عقل إنساني يتكون في التاريخ وتدخله عناصر إلهية وعناصر اجتماعية واقتصادية وثقافية وغيرها ويتأثر بدرجة وعي الإنسان في كل مرحلة.
وذكر الخشت أن تطوير العقل الديني، بما فيه من مكونات - لعلّ من أهمها علم أصول الدين الذي شكلته الفرق المتصارعة - غير ممكن بدون تفكيكه، وبيان الجانب البشري فيه، والعودة إلى الأصول الصافية القرآن والسنة الثابتة وغير المتعارضة مع نصوص القرآن الكريم.
الواقع الحالي للعلوم الدينية
ويرى الخشت أن الواقع الحالي الذي نعيشه حتى الآن: «أن العلوم الدينية التي نشأت حول النص الديني تجمدت وابتعدت عن مقاصده، وتم تحويل النص الديني من نص «ديناميكي مفتوح» يواكب الحياة المتجددة، إلى نص «استاتيكي جامد» يواكب زمناً مضى وانتهى، فالقرآن الكريم نص مقدس حمّال أوجه في كل العصور، ويواكب المتغيرات المعاصرة والمتجددة، وهو ما يتضح من خلال نزول القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عاماً، ومع ذلك نجد الآن أن المفاهيم التي نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية المتواترة تجمدت وتحولت إلي نص ثابت، ولذا لا بد من فتح باب الاجتهاد المتجدد حول المتن المقدس في كل العصور.
وتابع رئيس جامعة القاهرة «كما نجد أن الإصلاحيين المعاصرين لم يقوموا بالعودة إلى الكتاب في نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التي أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، وعدوا كل الكتب القديمة هي كتب مقدسة، وهي تمثل المرجعية النهائية في فهم الدين، مع أنها في النهاية هي عمل بشري قابل للصواب والخطأ.
وإذا استعرضنا ما تم خلال المائتي عام الماضية، سنجد من ناحية، أن معظم علمائنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك زمن الفتنة الكبرى التي نشأت أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونحن لا نزال نعيش في زمن الفتنة وعصرها، عصر الصراع، والانشقاق، والتكفير، والتفجير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين.
وفي المقابل نجد أنهم لم يدخلوا بعد المعارك الجديدة والمعاصرة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.
ولفت الخشت إلى أن بعض من يقومون بكتابة الخطاب الديني التقليدي لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية، وليس على منهجية نقدية، كذلك النظرة الأحادية والمتعصبة، وعدم القدرة على الحوار الإيجابي المنتج، كذلك دور العلم الاقتصادي في دراسة الظاهرة الدينية؛ فمن وجهة نظري، أن الخطاب الديني التقليدي، هو إنتاج لنمط الاقتصاد الرعوي؛ لأننا حتى الآن في العالم العربي لا نزال نعيش في نمط الاقتصاد الرعوي المشكل للحياة والمحدد لأنماط العلاقة والتفاعل.
تطوير علوم الدين
أشار رئيس جامعة القاهرة إلى أنه عندما ظهر دعاة الإصلاح بداية من القرن التاسع عشر، ودعوا إلى التحديث والإصلاح الديني لم يقم أي منهم بمحاولة «تطوير علوم الدين»، بل قاموا بـ «محاولة إحياء علوم الدين»، كما تشكلت في الماضي، وكأن النهضة تحدث بإحياء العلوم القديمة، على الرغم من أن العلوم القديمة هي علوم بشرية نشأت لكي تواكب العصر الذي وجدت فيه، وبالتالي قد لا تكون مناسبة لعصور أخرى.
وأكد أن العلوم التي نشأت حول الدين علوم إنسانية، تقصد إلى فهم الوحي الإلهي، فالقرآن الكريم إلهي، لكن علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل ... إلخ، علوم إنسانية أنشأها بشر، وكل ما جاء بها اجتهادات بشرية، ومن ثم فهي قابلة للتطوير والتطور.
وتابع الخشت: أنه بناءً على ذلك، فكل ما جاء في التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التي أعلنها القرآن، جهد بشري قابل للمراجعة، وهو في بعض الأحيان اجتهاد علمي في معرفة الحقيقة، وفي أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة، وفى كل الأحوال - سواء أكانت موضوعية أم مغرضة - ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل هي آراء بشرية قابلة للنقد العلمي والتمحيص.
ودعا إلى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين، فقد بات من الضروري تفكيك الخطاب البشري التقليدي، والبنية العقلية التي تقف وراءه، وتأسيس خطاب ديني، والذي أصبح يمثل حاجة ملحة، منوهاً أن هناك فرقاً بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص الديني هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، أما الخطاب الديني، فهو عمل بشري في فهم القرآن والسنة يمكن إعادة النظر فيه.
للتجديد دائرة معرفية أخرى!
وأوضح أن كل من يعيشون في الخطاب القديم من الداخل، لن يمكنهم تأسيس عقل ديني جديد أو خطاب ديني جديد، ولا حتى يمكنهم تجديد القديم إلا بالتهذيب أو الاختصار أو الانتقاء أو الشرح، لكنهم في الجوهر يظلون أسرى القديم في مناهجه ومفاهيمه وتصوراته، وما التجديد عندهم في كثير من الأحيان إلا إبعاد لتيار قديم واستدعاء لتيار قديم آخر؛.
وجزم الخشت بأنه على مستوى الخطاب الديني - أن التجديد لا يمكن أن يأتي من المؤسسات الدينية الكلاسيكية في أي بقعة من العالم، إلا إذا كانت لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى.
وشدد على أنه من دون الدراسات البينية وعدم النظر إلى علوم الدين كجزر منعزلة لن يتحقق الخطاب الديني الجديد بالصورة المأمولة، إلا من خلال الدراسات البينية التي يسهم فيها أكثر من اتجاه علمي، في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية، فالدراسات البينية هي التي تحقق الفهم المتكامل والشامل للظواهر التي تتم دراستها.
وعلى سبيل المثال من الضروري توظيف النظريات القانونية الحديثة في تطوير أحكام الفقه، مثل توثيق الطلاق على غرار توثيق الزواج طبقاً لنظرية الأشكال القانونية المتوازية، لأن انعقاد وإثبات الطلاق عن طريق توثيقه منطقي في ضوء نظرية الأشكال القانونية المتوازية، فما يتم وفق شكل وإجراء لا بد أن يتم إنهاؤه بالشكل والإجراء نفسه، والأمر في نهايته يحتاج إلى حوار مجتمعي جديد حتى الوصول إلى توافق مجتمعي.
وفيما يتعلق بإمكانية تطوير العقل الديني من دون تطوير اللغة، أشار الدكتور الخشت إلى أن جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الديني؛ فكيف يمكنك التعبير عن فكر ديني جديد بمفردات وأساليب تعبير قديمة؟ وكيف يمكن لخطاب ديني أن ينمو وهو يعيش في قوقعة لا تنمو؟.
معرباً عن تصوره أن أحد أهم أسباب التطرف والتشدد، هو طريقة فهم اللغة عند التيار المتشدد الذي يقف عند حدود الحرف وظاهر اللغة - كما تشكلت قديماً - وعدم الالتفات إلى السياق التاريخي والاجتماعي للغة، فضلاً عن عدم الالتفات إلى المقاصد.
وأشار إلى أنه لا بد من التأكيد على رفض موقف الذين يقدسون التراث كله، وفي الوقت نفسه لا بد من التأكيد على رفض موقف الذين يهينون التراث كله، إذ إن التراث يشتمل على الإيجابي والسلبي، ويتضمن الحي والميت من المكونات.
رؤية لمواطنة مستدامة
تظل أرقى حالات المواطنة وأكثرها عقلانية حتى الآن تلك التي تؤكد على الوطن الدولة وتجمع بين المواطنة والدولة، حيث الدولة الوطنية هي الأصل والانتماء والولاء والملاذ في مقابل الفوضى والضياع ومهددات الوجود، وأن الدولة الوطنية هي أرقى أشكال الدولة حتى الآن لارتباطها بالقانون الطبيعي، وحماية المقدرات الشخصية والعامة، وحقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
وأضاف الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة: أن المواجهة الشاملة لأعداء النموذج الوطني، تستلزم الحل الثقافي والفني والتعليمي والإعلامي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، موضحاً أن المواجهة الأمنية والعسكرية؛ خيار ينجح في حسم المواجهة مؤقتاً، ويقتلع أغصان الشجرة، لكن هذه الشجرة تعود لتنبت في موسم آخر. وأشار إلى ظهور قيمة المواطنة وقيمة الدولة الوطنية، مع ظهور دعاوى ترفض فكرة الوطن لكي تبرر لنفسها الخيانة والعمالة لدول أخرى تحت شعارات دينية زائفة ومضللة ما أنزل الله بها من سلطان ديني أو عقلي، ومن هنا تشكل فكرة المواطنة الأساس الركين في البناء، باعتبارها الانتماء إلى الوطن.
وأكد الدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة، أن مفهوم المواطنة في حدود الدولة الوطنية هو المفهوم الذي تقوم عليه الدولة بالمعنى المعاصر، لافتاً إلى أن الدولة الوطنية هي التي يتساوى فيها الجميع الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواة كاملة في الحقوق والواجبات، وأمام القانون، من دون تمييز.
وحدد الدكتور محمد الخشت، سمات المواطنة وترسيخها وكيف تكون عاملاً في بناء الدولة، مؤكداً أن حقوق وواجبات المواطنة تتفاوت نسبياً، وتزيد واجبات المواطنة بتولي وظائف أعلى أو الانتماء لهيئات أو مهن، وكذلك الحقوق قد تزيد وقد تنقص حسب ظروف الحرب والسلام.
ودعا رئيس جامعة القاهرة، إلى ترسيخ سمات الدولة الوطنية من خلال مجموعة من الوسائل، أبرزها التوسع في تذوق وتعليم الفنون والآداب وتاريخ الحضارة وتاريخ العلوم، ونوعية جديدة من التعليم تقدم له أسلوب حياة وطريقة عمل، ونوعية جديدة تعتمد على التعلم بدل التعليم، والبحث بدل النقل، والحوار بدل الاستماع.
وأكد الدكتور الخشت، أن تغيير ماكينة التفكير تبدأ من تغيير طرق تفكير الطالب من خلال تغيير طرق تأليف المناهج وطرق تدريس المادة العلمية وطرق الامتحانات؛ لتكوين العقل المفتوح الذي ينمو باستمرار والقضاء على العقل المغلق الجامد، مؤكداً ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وإبراز تاريخ العلوم والفنون والثقافة والآداب؛ قائلاً: «تاريخنا المقروء هو تاريخ الحروب فقط، بينما تاريخنا الحقيقي أوسع من ذلك بكثير»، موضحاً أن المعركة ليست فقط مع حاملي السلاح، بل هي معركة مع العقول المغلقة، وهذه العقول تمت صناعتها على أعيننا ليس في الزوايا ومجالس العلم المزيفة فقط، ولكن في المناهج التعليمية التي تنتج «ماكينات» للحفظ لا عقولاً تفكر تفكيراً نقدياً، وهذه المكينات تتغذى على منظومة ثقافية هشة.
فيلسوف عربي معاصر
الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، فيلسوف عربي معاصر، ألف عدداً من الكتب عن تأسيس الخطاب الديني، مثل «نحو تأسيس عصر ديني جديد»، «المعقول واللا معقول في الأديان» و«مدخل إلى فلسفة الدين»، كما ناقش قيم وأخلاق التقدم في كتابه الصادر حديثاً بعنوان «أخلاق التقدم»، كما نشر رؤيته الخاصة عن مفهوم الدولة الوطنية ودورها في العصر الحديث، في كتبه ومنها «فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة» و«المجتمع المدني والدولة». وحقق 24 كتاباً من كتب التراث، مثل «المقاصد الحسنة»، و«الفرق بين الفرق».