شروق عوض (دبي) 

تدخل دولة الإمارات العربية المتحدة، عبر «خطط الخمسين»، مرحلة جديدة من صناعة مستقبل بيئي مستدام للأجيال المقبلة، بعيداً عن الاعتماد على الموارد النفطية، وتترسخ معها مكانتها الإقليمية والعالمية في القطاع البيئي، باعتباره شريان الحياة لمختلف قطاعات الدولة الحيوية، مع تعزيز الارتقاء بتنافسية مسيرة مخرجاته المتمثلة بالحفاظ على الموارد الطبيعية والتنوع البيولوجي، وضمان استدامتهما، والحد من تداعيات تغير المناخ بوصفه الخطر الأكبر على الإنسانية وكوكب الأرض معاً، وتعزيز أمن واستدامة وسلامة الغذاء. 
وتشكل صناعة مستقبل بيئي مستدام للأجيال، إحدى أبرز الخطط التي أعلنتها وزارة التغير المناخي والبيئة ضمن مكونات الخطة التنموية الشاملة للإمارات، والتي تُعد واحدة من أبرز الخطط الداعمة لـ «الخمسين عاماً القادمة»، من خلال دعم توجهات الدولة في التركيز بشكل كامل على المحافظة على البيئة من التهديدات البشرية والمناخية وضمان استدامتها بشكل أفضل وأنشط، بما يحقق طفرة تنموية بيئية، عبر التكامل بين الوزارة ومؤسسات الدولة في كافة تخصصاتها ومستوياتها الاتحادية والمحلية، لبناء بيئة نظيفة مستدامة تكفل كل ما تحقق من مكتسبات خلال السنوات الماضية.

وتساهم صناعة مستقبل بيئي مستدام للأجيال القادمة في تحقيق مستهدفات الدولة وتعزيز تنافسيتها العالمية ومواكبة الرؤى المستقبلية لقيادتها الرشيدة، كما تعتمد على توجهين رئيسيين هما دعم وتعزيز أمن واستدامة وسلامة الغذاء، ومواصلة دعم مسيرتها في العمل من أجل المناخ والبيئة والحفاظ على مواردها الطبيعية وتنوعها البيولوجي وضمان استدامتهما.
ويرتكز توجه الدولة الأول، المتمثل بتعزيز أمن واستدامة وسلامة الغذاء ورفع معدلات الاكتفاء الذاتي، على ضمان سلامة الغذاء لتحقيق أعلى معدلات الحماية للصحة العامة، وتعزيز ريادة الدولة كمركز رئيسي لتجارة المواد الغذائية إقليمياً وعالمياً، وتوفير أقصى درجات الثقة والأمان بسلامة الغذاء المتداول محلياً والمستورد والمعاد تصديره، كما يرتكز على عدة محاور تشمل دعم وتطوير الإنتاج الزراعي والحيواني المحلي عبر توظيف التقنيات والنظم الحديثة، وتحفيز حركة الاستثمار في المشاريع الزراعية الحديثة، ما يضمن زيادة الإنتاج المحلي ورفع كفاءته وتنافسيته، والعمل على خفض معدلات هدر الغذاء تحقيقاً لمنظومة الإنتاج والاستهلاك المستدامين.
أما التوجه الثاني لخطة الدولة، المرتكز على محاور المناخ والبيئة والتنوع البيولوجي، بما يحقق مكانتها ودورها الريادي عالمياً في العمل من أجل المناخ وتحفيز عمليات الاستثمار في طاقة المستقبل والتقنيات الخضراء، بما يعزز قدرات الجهات كافة في الدولة على التكيف مع تداعيات التغير المناخي.
كما تسعى الدولة عبر مؤسساتها المختصة لصناعة مستقبل مستدام، إلى تعزيز منظومة الاقتصاد الأزرق؛ بهدف زيادة النمو الاقتصادي المحلي وحماية البيئة البحرية، وضمان استدامة مواردها وتنوعها البيولوجي، والعمل على ضمان الحفاظ عليه، وضمان استدامة النظم الطبيعية والتوسع في برامج الإكثار وحماية الأنواع المهددة بالانقراض، كما تشمل الخطة دعم التوجه نحو تطبيق معايير الاقتصاد الدائري عبر مشاريع الاستفادة من النفايات كمورد اقتصادي، وزيادة الشراكة مع القطاع الخاص لتحفيز الاستثمار في هذا المجال.

مسيرة عمل
وتترافق مسيرة الدولة وعملها من أجل البيئة مع تأسيسها وانطلاقتها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث شارك وفد رسمي بعد تأسيسها بـ 6 أشهر في أول مؤتمر للأمم المتحدة لحماية البيئة، وبمرور 3 أعوام تم إنشاء أول هيئة اتحادية للبيئة وإقرار أول قانون بيئي في الدولة، لتستمر المسيرة بعد ذلك بالارتكاز على تحقيق التوازن المنشود بين النمو والحفاظ على النظام البيئي، في استدامة موارده وصون تنوعه البيولوجي، ضماناً لبيئة خضراء نظيفة وآمنة ومساهمة في توفير الرخاء والرفاهية والصحة والاستقرار والسعادة للأجيال الحالية والقادمة، وتأكيداً على ريادتها في مجال العمل البيئي المستدام.
ويقيناً، ستنجح الدولة في صناعة المستقبل البيئي المنشود، وذلك نتيجة وضع الاستدامة البيئية في رأس سلم أولوياتها، باعتبارها استراتيجية منذ تأسيسها، وعلى مدار الـ 50 عاماً قدمت، بفضل رؤى وتوجيهات قيادتها الرشيدة، نموذجاً رائداً في المجال البيئي بكل تشعباته البيئية، الطبيعية والمناخية، الأمر الذي مكنها من تحقيق العديد من المنجزات على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، ومن المنجزات المحلية، على سبيل المثال لا الحصر، ارتفاع عدد المحميات الطبيعية المُعلنة إلى 49 محمية في عام 2020، والتمتع بتنوع فريد في الموائل الطبيعية نتيجة لجهودها في حماية البيئة المحلية ومكوناتها، حيث تضم أكثر من 50 نوعاً من الموائل، تشمل موائل الشعاب المرجانية، الأعشاب البحرية، أشجار القرم، السبخات والكثبان الرملية، وعليه فقد تم تسجيل أنواعٍ مهمة وفريدة من النباتات والحيوانات واللافقاريات البرية والبحرية وتوثيق أكثر من 3787 نوعاً فيها.

استشراف المستقبل
هذا، واعتمد نموذج الدولة في العمل المناخي على اتجاهين رئيسيين، الأول تمثل في خفض مسببات التغير والمتمثلة في معدلات انبعاثات غازات الدفيئة وبالأخص الانبعاث الكربوني، والثاني تعزيز قدرات كافة القطاعات للتكيف مع تداعياته الحالية والمستقبلية، وضمن جهودها في هذا المجال اعتمدت الخطة الوطنية للتغير المناخي (2017 - 2050)، وتم إطلاق البرنامج الوطني للتكيف مع التغير المناخي، والانتهاء من إعداد القانون الاتحادي للتغير المناخي ويجري العمل على اعتماده وإصداره ليكون القانون الأول المتخصص بهذا الشأن في المنطقة وغيرها الكثير.
وفي توجهاتها المستقبلية، لم يعُد نموذج دولة الإمارات في العمل من أجل المناخ يقتصر على قطاع بعينه، بل تبنت قيادتها الرشيدة وفق رؤيتها الاستشرافية للمستقبل، إدماج العمل من أجل المناخ في الاستراتيجيات المستقبلية لكافة القطاعات، حيث تبنت الدولة توجهات وسياسات عدة، منها التحول نحو الاقتصاد الأخضر والذي جاء انطلاقاً من نموذج تحويل التحديات إلى فرص نمو، إذ تعزز هذه المنظومة الاقتصادية الحفاظ على البيئة وحماية وتحقيق استدامتها وفي الوقت ذاته تضمن تسجيل معدلات نمو اقتصادية لمجالات وأنشطة جديدة، منها: وسائل النقل والمواصلات العامة الصديقة للبيئة، والتوسع في نشر واستخدام حلول الطاقة المتجددة، حيث باتت دولة الإمارات أحد أهم اللاعبين الدوليين فيها، ويتوقع أن تصل القدرة الإنتاجية من الطاقة المتجددة بحلول 2030 إلى 9 جيجاوات على المستوى المحلي، كما تم إطلاق مشاريع إنتاج الهيدروجين الأخضر والأزرق كرافد جديد لمزيج الطاقة المحلي.

حلول الطاقة
وعالمياً عززت الإمارات نشر واستخدام حلول الطاقة المتجددة عبر استضافة المقر الدائم للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (والتي تضم في عضويتها حالياً 184 دولة)، وقدمت مساعدات تنموية بقيمة تفوق مليار دولار لإنشاء محطات الطاقة المتجددة في 70 بلداً، عبر شراكة بين الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» وصندوق أبوظبي للتنمية، تم العمل على نشر واستخدام حلول الطاقة المتجددة من خلال تمويل وتنفيذ مجموعة منها في الدول الجزرية للمحيط الهادي والبحر الكاريبي بقيمة وصلت إلى 350 مليون دولار، كما تدير شركة مصدر عبر الاستثمار المباشر محفظة للطاقة المتجددة تصل قدرتها الإنتاجية إلى 10.7 جيجاوات في أكثر من 30 دولة، وإطلاق مشروع الاستخدام السلمي للطاقة النووية في إنتاج الطاقة الكهربائية «براكة» بطاقة إنتاجية تصل إلى 5.600 ميجاوات، والذي دخلت محطته الأولى للخدمة ويتوقع أن يوفر مع الانتهاء الكامل منه 25% من احتياجات الدولة من الكهرباء، وتطبيق منظومة المعايير الخضراء في المشاريع الإنشائية والعقارية، والتوسع في نظم الزراعة الحديثة وتعزيز توظيف الابتكار والتقنيات الحديثة في هذا المجال.

استضافة «كوب» 
وتؤكد الرؤية الثاقبة لحكومة الإمارات، وحسن تخطيطها للمستقبل، والاستعداد لمستجداته بأجندة خلاقة، وتخطيط مدروس، يشمل القضايا العالمية، ومنها قضية تغير المناخ، سبباً في فوزها بدعم وتأييد من غالبية دول العالم، باستضافة أعمال الدورة 28 لمؤتمر المناخ «COP.28»، المزمع عقده في أبوظبي عام 2023، وهو مؤشر لما حققته الإمارات من جهود عالمية وتاريخية غير مسبوقة خلال السنوات الماضية نحو التحول إلى مركز عالمي لحشد الجهود والطاقات من أجل مواجهة تحدي تغير المناخ وطرح الحلول والمبادرات التي تسهم في تسريع جهود حماية البيئة والتنوع البيولوجي.

«كوب 26»
خلال فعاليات مؤتمر دول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن المناخ «كوب 26»، أعلنت الدولة مجموعة من الإجراءات الداعمة لمسيرتها في العمل المناخي، ومنها: رفع طموحها في زراعة غابات القرم (المانغروف) من 30 مليوناً - التي تم تحديدها في التقرير الثاني للمساهمات المحددة وطنياً - إلى 100 مليون شجرة بحلول 2030، والمصادقة على إعلان قادة (غلاسكوCOP26 -) بشأن الغابات واستخدام الأراضي والذي يُلزم الدول بالتعاون والعمل الجماعي لوقف فقدان الغابات وإعادة تأهيلها وتدهور الأراضي بحلول 2030، وتحفيز الحراك العالمي نحو التنمية المستدامة، وتأييد «تعهد القادة تجاه الطبيعة»، والذي يلزم المجتمع الدولي باتخاذ الخطوات اللازمة لتحقيق التنمية المستدامة ووضع الطبيعة والتنوع البيولوجي على طريق التعافي بحلول 2030، كجزء من جهود العمل للعقد المقبل للأمم المتحدة.

زراعة مستدامة
من إجراءات الدولة أيضاً، تأييد أجندة سياسة العمل للتحول إلى الأغذية والزراعة المستدامة، وإطلاق خريطة طريق لريادة إنتاج الهيدروجين والتي تستهدف بها الاستحواذ على 25% من سوق هذا المصدر النظيف للطاقة مستقبلاً، وإطلاق مبادرة «الابتكار الزراعي للمناخ» بالشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية والتي تهدف إلى تطوير نظم زراعية ذكية مناخياً عالمياً، والإعلان عن الانضمام للميثاق العالمي للميثان والذي يهدف إلى خفض معدلات انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% بنهاية العقد الحالي، وإطلاق المنصة العالمية لتسريع نشر مشاريع وحلول الطاقة المتجددة في البلدان النامية بالشراكة مع «آيرينا».
وإطلاق مبادرتين لتعزيز الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في العمل المناخي، وهما: مبادرة «بوستيريتي 20»، وهي المبادرة الإقليمية الأولى التي تستهدف تحديد وإبراز أفضل 20 قائداً من قادة الرأي والفكر في مجال الاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والاحتفاء بهم، ومبادرة لتشجيع إطلاق حاضنات الأعمال في مجال التغير المناخي، وهي أول صندوق لرأس المال يستهدف التأثير الإيجابي في المنطقة عبر نموذج استثمار مشترك مع كبريات الشركات الإقليمية لدعم وتوسيع نطاق ريادة الأعمال والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا النظيفة في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب شرق آسيا، ويسعى الصندوق لتوفير فرص الاستثمار للقطاع الخاص على المستويين الإقليمي والدولي المهتمين بالمشاريع الخضراء والمستدامة.

توجهات وسياسات
اعتمدت وتبنت الإمارات مجموعة من التوجهات والسياسات التي تشكل إطاراً عاماً لعمل القطاعات كافة، ومنها: توجه التحول نحو الاقتصاد الأخضر، وتوجه تحول الطاقة، والسياسة العامة للبيئة للدولة، وسياسة الاقتصاد الدائري، والخطة الوطنية للتغير المناخي، والبرنامج الوطني للتكيف مع تداعياته وتبنى توجه إدماج العمل المناخي في استراتيجيات القطاعات كافة، ومن أهمها القطاع الزراعي عبر التوسع في نشر واستخدام نظم الزراعة الحديثة المستدامة، والانضمام للمبادرة العالمية «الابتكار الزراعي للمناخ». ويأتي الإعلان عن المبادرة الاستراتيجية لتحقيق الحياد المناخي في دولة الإمارات 2050 -كعلامة فارقة - في مسيرة امتدت لـ 3 عقود من العمل المناخي ورؤية استراتيجية لـ 3 عقود مقبلة، وتمثل محركاً مهماً لاستراتيجية التنويع الاقتصادي بالإمارات من أجل تطوير صناعات وتقنيات ومهارات ووظائف جديدة، إلى جانب حماية البيئة.

مؤشرات عالمية
تمثلت منجزات الدولة على الصعيدين الإقليمي والعالمي بتبوئها، وفقاً لتقرير الكتاب السنوي للتنافسية، المركز الأول عالمياً في مؤشر القوانين البيئية، والمركز الأول عالمياً في مؤشر الرضا عن جهود المحافظة عليها، والمركز الأول لحفاظها على الأراضي الرطبة، والمركز الأول عالمياً ضمن مؤشر الأداء البيئي، والمركز الأول إقليمياً في مؤشرات «معالجة مياه الصرف الصحي»، و«تنظيم المبيدات»، و«المناطق البحرية المحمية»، و«شهادات آيزوا 14001 البيئية وغيرها الكثير، وعلى مدار ما يزيد على 3 عقود، بذلت خلالها جهوداً جبارة في مجال المناخ على المستويين المحلي والعالمي منذ انضمامها لاتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون وبروتوكول مونتريال في عام 1989، ثم انضمامها للاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن المناخ في 1995، ثم الانضمام لاتفاق كيوتو 2005، واستضافة المقر الدائم للوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» 2009، والانضمام لاتفاق باريس للمناخ كواحدة من دول المنطقة الأولى 2015، وتنظيم مؤتمر أبوظبي للمناخ 2019، وتنظيم حوار أبوظبي للمناخ 2021، والمشاركة في حوار القادة للمناخ 2021، وطلب استضافة «كوب 28» عام 2023.
وكانت الدولة أعلنت في ديسمبر 2020 عن التقرير الثاني من مساهماتها المحددة وطنياً والذي يشمل رفع سقف هدف خفض الانبعاثات بنحو 70 مليون طن بحلول العام 2030، بما يحقق خفضاً في كثافة إجمالي الانبعاثات فيها بنسبة 23.5% بحلول 2030 مقارنة بمعدلات 2016، وزيادة حصة الطاقة النظيفة المحلية لتصل إلى قدرة إنتاجية 14 جيجا وات بحلول 2030، مقارنة بـ 100 ميجاوات 2015، والاستمرار في تطبيق منظومة متكاملة من الإجراءات الهادفة لخفض مستوى الانبعاثات في القطاعات الاقتصادية الرئيسية (الطاقة، النقل، الصناعة، الخدمات، الزراعة والنفايات)، والاستمرار في جهود الحفاظ على النظم البيئية الساحلية، ومشروع الكربون الأزرق عبر زراعة ملايين الأشجار، ومنها أشجار المانغروف التي من المخطط زراعة 30 مليون شتلة منها بحلول 2030.