إبراهيم سليم (أبوظبي)
تحت رعاية سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، بدأت أمس فعاليات مؤتمر «تجديد الخطاب الديني» الذي تنظمه جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية. يشارك في المؤتمر الذي يُعقد برئاسة معالي الشيخ عبد الله بن بيّه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، عدد من العلماء والخبراء من داخل الدولة والخارج. ويتناول المؤتمر الذي يستمر لمدة يومين بفندق سانت ريجس السعديات في أبوظبي، عدداً من المحاور التي تعنى بتجديد الخطاب الديني وإعلاء مبادئ الاعتدال والوسطية، وتعزيز قيم الأخوة الإنسانية والتسامح والتعايش التي تتبناها دولة الإمارات كمنهج لنشر روح المحبة والسلام، وتجسد رؤية قيادتها الرشيدة في تحقيق مبادئ العيش المشترك بين الشعوب ونبذ العنف والكراهية.
خاطب معالي الشيخ عبدالله بن بيّه الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، مرحباً بالمشاركين من داخل الدولة وخارجها، وقال: «نأمل أن يكون المؤتمر فاتحة مشاريع طموحة في البحث المؤصل من أجل بث مفردات السلم والتسامح والأخوة الإنسانية في قاموس الحياة»، مشيراً إلى أن تجديد الخطاب الديني يعتمد على استعادة مضمونه القيمي الذي أصابه ضمور شديد في العقود الأخيرة، ووصل ما انفصل من علاقة الدين بالقيم؛ لذلك لا بد من خطاب يجدد القيم في النفوس، ويعزز روح الرحمة والمحبة والتضامن لتتنزل سكينة على القلوب.
وأكد أن القيم روح الدين ولغته الكونية وسبيل عودته الرشيدة إلى الفاعلية، وبمضامينه القيمة يمكن لخطابنا الديني الجديد أن يستعيد دوره في إرشاد العالم واقتراح الحلول.
وأضاف: «نحن جميعاً مدعوون لهذه المهمة الجليلة، مهمة تجديد الخطاب الديني من خلال إنتاج رواية جديدة للدين تستعيد بها الأمة فاعليتها في العالم، وليس على هامشه أو مواجهته، فهو دعوة إلى بناء إنسان جديد فخور بأصالته ومتفاعل مع عصره ويستطيع بكفاءته الروحية والخلقية والنفسية والعلمية المنافسة في ميدان الحياة والانخراط في العالم الجديد بتحدياته ومجهولاته».
وقال: «إن الخطاب الديني الذي نرنو إليه يتصف بالانضباط والانفتاح والتسامح؛ لأنه خطاب منبثق عن استيعاب كامل التراث واستثمار الإمكانات المتاحة فيه، ولكونه يقوم على منهج المواءمات الحضارية والتحالف بين القيم والتوازن بين الكليات، وهو أيضاً يقبل الاختلاف ويتسع لمختلف وجهات النظر والآراء، وهو خطاب متصالح لا يكفر ويتوخى مصالح الناس ويراعي ضعفهم ويعلي قيمة الإنسان».
وقال معالي عبدالله بن بيه: «أما الانضباط، فلأنه خطاب منبثق عن استيعاب كامل للتراث واستثمار للإمكانات المتاحة فيه، لا سيما في أصول الفقه، بوصفها المنهجية المثلى المقنّنة والموجهة لفكر المسلم وأداة تفعيل آلة التفكير والتدبر المعطلة، وأما الانفتاح فلأنه خطاب يقوم على منهج الموائمات الحضارية والوساطات، ومنهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، ومنهج التحالف بين القيم، والتوازن بين الكليات، وأما كونه خطاباً متسامحاً فلأنه خطاب يقبل الاختلاف ويتسع لمختلف وجهات النظر والآراء فلا إنكار في مختلف فيه، وخطاب التجديد موجّه إلى الجميع، وهو خطاب متصالح لا يكفّر، يتوخى مصالح الناس ويراعي ضعفهم، وهو خطاب إنساني لأنه يعلي قيمة الإنسان».
وقال معاليه: «القول الجامع في موضوعات التجديد وثيماته، إنه شامل لا يستثني إلا ما لا مجال فيه للعقل أو للاجتهاد ولا مدخل فيه للواقع، من المفاهيم التعبدية، فمن التجديد ما يتعلق بالأصول أو الفقه الأكبر ومنه ما يتعلق بالفروع أو الفقه الأصغر، ففي الفقه الأكبر، وهي العقائد، بحسب عبارة الإمام أبي حنيفة، نبحث عن رؤية للعالم -هي رؤية كونيّة تُطلُّ على العالم، وتتخذ موقفاً من كل قضاياه- هذه الرؤية تبحث عن التجديد في الفقه الأكبر عن طريق تطوير أساليب البرهنة وطرق العرض واستغلال الإمكانات التي أتاحتها المعارف البشرية الجديدة».
وأضاف معاليه: «من أوجه التجديد الممكنة في الفقه الأكبر، استعراض العقائد من خلال نتائج العقول، فهو أمر مناسب وقد يكون في بعض الظروف والسياقات ضرورياً، ونستذكر هنا ما شهده القرن الثاني والثالث والرابع من جدل محتدم، ولا نريد أن نردها جذعة فنستعيد السجال في شكله الحاد، وإنما نؤكد أنه يسوغ شرعاً ويجدي نفعاً استثمار ثمرات العقول والعلم الحديث في صياغة العقائد وعرضها عرضاً سليماً بطرائق الاستدلال المناسبة لإدراك أهل العصر، وألا نجد في أنفسنا حرجاً من الاستعانة بالفلسفة، فإن المدارس الفلسفية منها المدارس الصديقة التي يجب أن نستفيد من تجربتها وحاصل تحريراتها، ومنها المدارس التي يمكن أن نسميها خصماً، ولكن ليس بالضرورة عدوة، وهذه ينبغي محاورتها، فنستفيد من الصديقة ونحاور الأخرى المخالفة أو المنافسة.
أما بالنسبة للفقه الأصغر، فالتجديد فيه عبارة عن الربط بين القضايا المتجددة والأصول الحاكمة، وهي أصول واسعة مترامية الأطراف لا ينقطع عطاؤها ولا ينفد مددها، والفروع في كل زمان تطرح قضايا أو يرشّح الزمن قضايا لنظر الفقيه، على نحو ما وقع في زمن الجائحة الحالية، حيث عنّت مسائل كثيرة لم تكن مطروحة من قبل، فاستدعى ذلك أن ينتدب لها العلماء ليبحثوا لها عن أجوبة اجتهادية، وذلك ما تم في مؤتمر فقه الطوارئ الذي نظمه مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي السنة الماضية».
التجديد ورؤية العالم
وأوضح معالي عبدالله بن بيه أن لكل عصر كليّ زمانه المؤطر لرؤيته للعالم، فلا بد من مراعاتها عند الاجتهاد بتحقيق المناط، وعلى ضوء ما استجد من واقع دولي معاصر، في عصر الامتزاج الحضاري والتواصل الإنساني، وقيام المواثيق الدولية والمعاهدات العالمية؛ ومن ثم فإن الدار في العصر الحديث يجب أن توصف بأنها دار جديدة، والمقصود بالدار هنا طريقة تقسيم مناطق العالم.
التجديد والقيم
ونبه معاليه إلى أن تجديد الخاطب الديني يتوسّل لا محالة باستعادة مضمونه القيمي الذي أصابه ضمور شديد في العقود الأخيرة، ووصل ما انفصل من علاقة الدين بالقيم، فلا بدّ من خطاب يجدّد القيم في النفوس، خطاب تنساب في أوصاله روح من الرحمة والمحبة والتضامن، لتتنزل سكينة على القلوب، وأن القيم روح الدين، ولغته الكونية، وسبيل عودته الرشيدة إلى الفاعلية، فبمضامينه القيمية يمكن لخطابنا الديني الجديد أن يستعيد دوره في إرشاد العالم، واقتراح الحلول.
ونحن جميعاً مدعوون لهذه المهمة الجليلة، مهمة تجديد الخطاب الديني من خلال إنتاج رواية جديدة للدين، تستعيد بها الأمة فاعليتها في العالم، وليس على هامشه أو في مواجهته، فهو دعوة إلى بناء إنسان جديد فخور بأصالته، متفاعل مع عصره، يستطيع بكفاءته الروحية والخلقية والنفسية والعلمية المنافسة في ميدان الحياة والانخراط في العالم الجديد بتحدياته ومجهولاته.
مواقف الإمارات الأصيلة
من جانبه، أشاد معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، في كلمته بدور القيادة الرشيدة في دعم مسيرة الجامعة، وخص بالشكر صاحب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي تشرفت الجامعة بحمل اسمه، وأثنى على رعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان لفعاليات المؤتمر، ونقل شكر وتقدير سموه للمشاركين في المؤتمر من داخل الدولة وخارجها.
وأضاف: «نحمد الله أننا في دولة بناها زايد الخير ويرعاها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، دولة يعلي صرحها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ويحفظ أمنها وإيمانها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبفضل هذه القيادة ورؤيتها السديدة أصبحت الإمارات بحق وحقيقة وطن السلام والتسامح والأخوة الإنسانية، حيث تعيش على أرضها أكثر من 200 جنسية بأمن وأمان وانسجام تام».
وقال المزروعي: «إن مواقف الإمارات الأصيلة تجاه الآخرين جعلتها تتصدر دول العالم في منح المساعدات الإنسانية من دون النظر لجنس أو لون أو عرق أو أي اعتبارات غير إنسانية»، مشيراً إلى أن استضافة الدولة معرض «إكسبو 2020» تجسد الثقة التي تحظى بها من الجميع.
ودعا المزروعي الذين يتاجرون باسم الدين، إلى الكف عن العبث بالدين وبأرواح وأموال الناس، مشيراً إلى أنه قد اكتشف الجميع حقيقتهم وزيف دعوتهم وبارت بضاعتهم، كما دعا معاليه الشباب إلى أن ينتبهوا إلى دعاة التكفير والتضليل، وأن يستقوا أمور دينهم من الثقاة من العلماء والأئمة والدعاة.
التعايش السلمي
من جانبه، أكد معالي الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف في جمهورية مصر العربية، أن الأصل في الإسلام هو السلام والتعايش السلمي بين البشر، ولا إكراه في الدين ولا قتل على المعتقد ولا تمييز بين أبناء الوطن الواحد على أساس الدين واللون والجنس والعرق واللغة والقبيلة، إنما هي حقوق وواجبات على نحو ما رسخته وثيقة المدينة المنورة من أسس التعايش بين أهل المدينة جميعاً.
وقال معاليه: إن مهمة العلماء البيان لا الهداية، وإن التعايش السلمي بين الأديان لا يعني ذوبان أي دين في دين آخر، إنما يعني قبول الآخر، والقدرة على التعايش السلمي معه، وإحلال ثقافة السلام والحوار محل ثقافة الاقتتال والاحتراب والتجديد الذي ننشده يعني إعمال العقل في فهم النص في ضوء معطيات الواقع مع الحفاظ على ثوابت الشرع.
وتحدث معاليه في نقاط أساسية عدة، أولاً: إن التجديد الذي ننشده هو التجديد المنضبط بضوابط الشرع، القائم على إعمال العقل في فهم صحيح النص في ضوء معطيات الواقع مع الحفاظ على ثوابت الشرع الحنيف، وإن هناك أمرين في غاية الخطورة قد أضرا بالخطاب الديني، وبصورة الإسلام والمسلمين هما الجهل والمغالطة، أما الأول فداء يجب مداواته بالعلم، وأما الثاني فداء خطير يحتاج إلى تعرية أصحابه وكشف ما وراء مغالطاتهم من عمالة أو متاجرة بالدين.
وأوضح معاليه أن من أخطر القضايا التي لعبت عليها أو بها جماعات أهل الشر «تصرفات الحاكم» سواء بالافتيات عليها أم بمحاولة تشويه تصرفاته ولو كان في عدل سيدنا عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، لافتاً إلى إدراك علمائنا القدماء طبيعة الفرق بين ما هو من اختصاص الحاكم وما هو من اختصاص العالم، وفرقوا بدقة بين ما تصرف فيه النبي «صلى الله عليه وسلم» بصفة النبوة والرسالة من شؤون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق، وما تصرف فيه «صلى الله عليه وسلم» باعتبار الحكم أو القضاء، فالنبي «صلى الله عليه وسلم» لم يكن نبياً ورسولاً فحسب، إنما كان نبياً ورسولاً وحاكماً وقاضياً وقائداً عسكريّاً.
الجهل والمتاجرة
وقال جمعة: «إننا نؤكد، من خلال هذا المنبر، أن التعايش الذي ننشده لا يعني التنازل عن ثوابتنا الشرعية بأي صورة من الصور أو النيل من الأديان، كما أن التجديد لا يعني التبديد»، لافتاً إلى أن هناك أمرين أضرا بالخطاب الديني والمجتمعات المسلمة على حد سواء، هما الجهل والمتاجرة بالدين، مشيراً إلى أن الجهل يجب مداواته بالعلم والمتاجرة تحتاج إلى كشف أصحابها وما يتصفون به من عمالة وتكسب بالدين.
موضوع حيوي
من جانبه، أشاد فضيلة الشيخ كامل سميع الله مفتي جمهورية تترستان بتنظيم جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية لهذا المؤتمر، واختيار هذا الموضوع الحيوي للتداول حوله، وأضاف «ليس من المستغرب أن يقام هذا المؤتمر في الإمارات التي تدعو دائماً للتسامح والتعايش ونشر قيم الأخوة الإنسانية». وقال: إن تترستان تعتبر من أفضل البلاد التي تجسد معنى التسامح والتعايش على أرض الواقع، حيث تعيش 170 قومية في سلام ووئام حتى أصبحت نموذجاً للتعايش في العالم، وأضاف: «إن للإسلام في تترستان جذوراً عميقة وتستمد بلادنا قيم التسامح من التراث التتري الذي كان يمثل نموذجاً به يحتذى في التعايش الديني».
الجلسة الأولى
وتناولت فعاليات الجلسة الأولى من مؤتمر التجديد في الخطاب الديني الذي تنظمه جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، الخطاب بين المفهوم والمصطلح في الفكرين القديم والمعاصر، وترأس الجلسة الدكتور رضوان السيد، وتحدث خلالها كل من الدكتور ياسر قنصوه، والدكتورة هيام المعمري والدكتور محمد عدناني. وتناولت الجلسة الثالثة لمؤتمر تجديد الخطاب الديني الذي تنظمه جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية ماهية خطاب التجديد وأهدافه ومجالاته، وأدارها الدكتور عبد الصمد اليزيدي رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا، وتحدث فيها الأستاذ الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، والدكتور عمر الدرعي المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.
تطوير العقل الديني
وقال الدكتور محمد عثمان الخشت أستاذ فلسفة الدين، رئيس جامعة القاهرة في مسألة تطوير العقل الديني: إنه لا بد من تأسيس خطاب ديني من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الديني التقليدي، فتجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد، والمقصود هو الخطاب الديني البشري، وليس القرآن الكريم والسنة المتواترة الثابتة بيقين.
وقال في كلمته: لا يمكن تجديد الخطاب الديني دون تكوين عقل ديني جديد، وإنه لا يؤمن بإصلاح العقل الديني القديم؛ لأن العقل الديني البشري القديم تشكل في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة. والأبنية العقلية القديمة تلائم عصورها ولا تلائم عصرنا؛ فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة، معرباً عن تقديره للتراث القديم، لكن نحب أن نصنع تراثاً جديداً نعيش فيه؛ فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول.
الخطاب المعتدل
إلى ذلك، أكد الشيخ راشد الهاجري رئيس الأوقاف السنية بمملكة البحرين، في كلمته، أن الخطاب الديني المعتدل من أهم الروافد التي تعنى ببناء الفرد والمجتمع، وهو السبب الرئيس في حفظ وصيانة الأفراد والمجتمعات من الانحرافات الفكرية والعقدية، وقال: إن الخطاب الديني المعتدل ضرورة ملحة ومطلب متجدد، لذلك تشرفنا بالمشاركة في هذا المؤتمر الذي يناقش هذا الموضوع الحيوي، وقامت الإدارة العليا لجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، في ختام الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، بتكريم المشاركين من العلماء والخبراء والضيوف.
10 أخطاء منهجية
عدد الدكتور محمد الخشت الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية في علوم الدين التقليدية، ومن أهمها: «الخلط بين المقدس والبشري،
علم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد، وليس على تعددية المعنى وتعددية الصواب، وسيادة العقائد الأشعرية، فأنا مسلم ولست أشعرياً، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لم يكن أشعرياً، والخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية، وعدم التمييز الإبستمولوجي بين قطعي الدلالة من النصوص وظني الدلالة (تعددية المعني والصواب)، وعدم التمييز الإبستمولوجي بين اللاتاريخي (الثابت) والتاريخي (المتغير) في الأحكام الشرعية، وعدم التمييز بين الإسلام والمسلمين، غياب العقلانية النقدية، والرؤية الأحادية للإسلام، وعدم التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة والأحاديث الآحاد.
ضبط الخطاب الديني رؤية إماراتية
تناولت الورقة العلمية التي قدمها الدكتور عمر الدرعي المدير التنفيذي للشؤون الإسلامية، جهود الإمارات في ضبط الخطاب الديني، تناول فيها محاور عدة، منها ما يتعلق بالواقع المتغير الذي يكتنف هذا الخطاب، فالخطاب الديني شهد منذ أواخر القرن الماضي وبدايةِ هذا القرن خطاباً يتغير بوتيرة متسارعة، وقد تجاسر على حمى الخطاب الديني من لا علم له، فلم يعد له خصوصية، ولا شروط ولا ضوابط، وأصبح من حق كل أحد أن ينشر أيّ محتوى ديني يريده، بل يؤلف ما شاء فيه إن شاء، وهذا مُشاهد لا يحتاج لدليل أو تمثيل، ناهيكم بالترهل والتراخي في مراقبة الخطاب الديني من بعض المؤسسات الرسمية في كثيرٍ من الدول، بل إن بعض هذه المؤسسات تركت الفراغ للمنافسين في ظل تغول الأفكار المتطرفة وتخفيها، والقدرة على الوصول لفئات مختلفة من الشعوب، ونشرها وإشاعتها بين الناس، بل وصل الأمر إلى التهديد الواضح لوحدة المجتمعات وانزلاقها نحو الطائفية والتشدد والإرهاب.
وقال: «إن ضبط الخطاب الديني في سياق تجديده من أهم المصالح الدينية والوطنية، بل له أبعاد إنسانية وعالمية وحضارية، وقد تناول الدرعي الرؤية الإماراتية لضبط الخطاب الديني»، موضحاً أن دولة الإمارات -بفضل يقظتها المبكرة ورؤيتها الواضحة، وإقدامها على ضبط الخطاب الديني منذ تأسيس وحدتها على يد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه- قد أصبحت لها تجربة رائدة على مستوى العالم في هذه القضية عبر معامل فكر ومؤسسات، وقد تميزت هذه الرؤية بشموليتها وراهنيتها وخدمتها للمجتمع.
ولفت إلى أنه تم ضبط عمل المساجد على أفضل حال، والرفع من جودة خدماتها، وتأهيل العاملين فيها، وتدريبهم وإصدار وثائق وقوانين يجب التقيد بها، فأصبحت مساجد الإمارات قلاعاً حضارية، تمثل نماذج حقيقية لحضارة هذا الدين الحنيف، بما ترمز إليه من قيم الجمال والمعروف والوئام مع معنى الطبائع والطبيعة ومبناها.
واستطاعت المؤسسة الدينية في دولة الإمارات، في وقت قصير، القَطْع مع ما يجري به العمل في مجال الخطاب الديني من جعله مطية لهدم العقول والأوطان، فأنزلت خطبة الجمعة في منزلتها، وجعلت منها خطاباً رساليّاً يزخر بمعاني الإيمان والديانة والحضارة، ورافداً أسبوعيّاً موحداً بنسق يجمع بين هيبة التوجيه وجمال الأسلوب وتكثيف الكلمة دونما تجييش أو تشويش.. وأن خطاب الوعظ والتثقيف الديني ودروس المساجد ومحاريبه وحلقاته؛ يتعلم الناس في رحابها أمور دينهم ودنياهم، في ارتباط يشدهم نحو وطنهم ولاءً وانتماءً.
وقال إن دولة الإمارات فتحت قبل أكثر من عقد من الآن أشد المصانع الدينية وأصعبها، وهو الإفتاء الذي كان لانفلاته الأثر الكبير فيما أصاب المجتمعات من المآسي، فأسست دولة الإمارات مشروعاً إفتائيّاً نموذجيّاً، يعمل فيه المؤهلون للفتوى يحترمون الثوابت ويوقعون الخطاب الإفتائي مخرجين مناطه ومنقحينه ومحققينه بما يحث عليه الإسلام من السماحة والاعتدال والرحمة والسلام.
وتوَّجت مسيرة الإفتاء بتشكيل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي الذي له عبقرية في المأسسة، وسبق عالمي في اختصاص الفتوى، إذ هو معني بالفتاوى العامة كما أنيط به من المهام العظيمة في سياق تحقيق غاية ضبط الفتوى ومأسستها، ليمثل مع غيره من المؤسسات في الدولة سياجاً وحصناً من الفتاوى المارقة، والتيارات الهدامة.
كما أحدثت المؤسسة الدينية الإماراتية مراكز متعددة لتحفيظ القرآن الكريم على مستوى الدولة، وأكد أن مشروع «ضبط الخطاب الديني» في التجربة الإماراتية أدى دوراً تجديدياً في الخطاب الديني، وصنع خطاباً دينياً حضارياً نموذجياً، فلم ينحرف يوماً ما عن الهوية الوطنية والقيم الإنسانية، كما أدى بجدارة دور حماية دين الله تعالى من أباطيل المرجفين وتحريفات المتشددين، والحفاظ على صورة الإسلام الحضارية.
كما أن التاريخ والواقع سيسجل لدولة الإمارات أنها حافظت على الصورة الحضارية للإسلام؛ ووقفت في وجه خاطفي الدين وأقامت دين الله تعالى حنيفاً سالماً من الشوائب، وهذا من أعظم النتائج المحققة لضبط الخطاب الديني.
وانتهى الدرعي إلى التأكيد على ضرورة مراقبة الخطاب الديني وتحولاته، وإنشاء قواعد بيانات لمتابعة هذه التحولات ورصد الآثار المترتبة عليها، فبهذا نستطيع محاصرة الخطابات المنفلتة من كل القيود، ونقدر على حماية تجربتنا في تجديد خطابنا الديني الوطني من الاختطاف والانحراف.