نوف الموسى (دبي)

عندما بدأ لطيف كريموف، فنان سجاد أذربيجاني، بإدخال تقنيات جديدة على نسج السجاد في الثقافة الأذربيجانية، وتحديداً لنساجي منطقة «كاراباخ»، التي تصل فيها أنواع السجاد إلى أكثر من 30 نوعاً، نظراً لميزة صوف الأغنام المحلية فيها، فإنه احتاج وقتها إلى وضع الإجراءات الخاصة بالنسيج عبر تأليف «goshmas»، أو ما يعرف بـ «النوع الشعري الأذري»، بسبب أن النساجين كانوا أميين لا يستطيعون تدوين الملاحظات وتطبيقها، فكانت القصيدة هي الذاكرة الحسيّة لبناء الجمالية في عمق السجادة الأذربيجانية، المتضمنة في جوهرها العلاقة الوجدانية للشعب الأذري بأرضهم وثقافتهم المتفردة بتنوعها وتأثيراتها بالحضارات والتقاليد المختلفة من مثل الزرادشتية والتركية والمسيحية والعربية والإسلامية، والتي تشبه موسيقاهم التي تدعى «المقام الأذربيجاني»، فأثناء إحيائهم لـ «المقام»، والتي تعني «الموسيقى المرسلة من الرب» يعلقون السجادة الأذربيجانية في أحيان أو يجلسون عليها، كونها تعبيراً عن حراك اجتماعي للمجتمع ومتغيراته اليومية، وأهم ما ساهم فيه الفنان الرائد لطيف كريموف، أنه قدم السجادة الأذربيجانية ضمن معايير عالمية، وفق دراسات بحثية قدمها في كتابه عن «السجادة الأذربيجانية»، مصنفاً السجاد إلى 4 مجموعات كبيرة في أربع مناطق جغرافية لأذربيجان، منها «غوبا»، و«شيران»، و«كنجة»، و«كاراباخ»، و«تبريز»، وتحضر مساهماته ورحلة السجادة الأذربيجانية عبر قرون سابقة، في أول متحف للسجاد على مستوى العالم في العاصمة الأذربيجانية باكو، ما جعلها نشاطاً تاريخياً يسرد تقاليد العائلة الأذرية تلك التي تنتقل شفهياً من جيل إلى آخر، من خلال ممارسة فعل النسيج المتوارث، ومنه تم إضافته إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في عام 2010.

ثقافة حياكة السجاد
الكثير من التقارير التلفزيونية في أذربيجان، والأفلام ذات البعد التوثيقي، تصور المكونات الاجتماعية التي تولدت منها ثقافة حياكة السجاد في أذربيجان، وتربط مسألة الطبيعة الأم، والغذاء في أعالي الجبال المقدم للأغنام، ودورة الحياة التي تشكل أصل النسج في حياة الأذريين، ورغم البعد الاستثنائي في رحلة الإنسان نحو تطوير فعل البقاء، إلا أنه كذلك بيان على الروح الإبداعية الكامنة في الذكاء الإلهي، الذي تقوم عبره الحياة بتنوعاتها الابتكارية، الملهمة لحياة الإنسان، منتقلاً من رغبة البقاء والحياة إلى الشعور العالي بالاتصال ونشوة المشاركة في صناعة الإحساس بالجمال، وبذلك تم الجمع بين استقرار التقاليد الأذربيجانية القديمة الممتدة عبر قرون، بالتزامن مع تطور جهود الرعاة وقواطع الصوف ومنظفات الصوف والنساجون، وتنوع حقائق الحياة بشكل عضوي في السجاد الأذربيجاني، فبالعودة إلى العملية التقليدية لصنع السجاد والبساط، فقد كان يقوم الرجال بقص الأغنام من أجل الصوف في الربيع والخريف، بينما تعمل النساء بجمع الأصباغ والغزل والصبغ في الربيع والصيف والخريف، وكان لزاماً على الفتيات تعلم مهارة نسج السجادة، كجزء أساسي من تميزها وتفردها في الحياة الاجتماعية في داخل المجتمع الأذربيجاني.
إذاً، فالسجادة الأذربيجانية في المعتقد الاجتماعي، بمثابة دلالة رفاهية وإتقان خالص لحفظ الذاكرة لكل أسرة، وكتاب منسوج يخلد الحكاية الاجتماعية في الشعور الدافئ للسجادة، فمن يجلس عليها، يستشعر حضور كل أفراد أسرته، دفعة واحدة، وعلية يستطيع أن يحمل الأذريون سجادتهم أينما استقروا وارتحلوا. 

لطيفة مثل الأرض
شبهت الفنانة وعازفة الكمان الأذرية شفيقا إيفاسوفا السجادة الأذربيجانية: «بأنها جميلة مثل المرأة، ولطيفة مثل الأرض»، ربما لتلك التجليات التصميمية تأثير في الإيقاع الخاص بكل سجادة في أذربيجان، التي تسري منها ألحان أهل المكان وأغانيهم، بل يخبؤون فيها أمنياتهم ورغباتهم، ورسائلهم الروحية، ومنها نطلق نحو الأسئلة في طبيعة استمرارية التصميمات العريقة نفسها بأشكالها وألوانها في السجادة الأذربيجانية، والتي تحتوي على زخارف لها معنى شعوري أخاذ، بناء على كل حقبة تاريخية، شهدتها البلاد، إلى جانب أن السجادة الأذربيجانية لها ارتباط وثيق بالأدب والتراث المعماري، وبالأخص الفنون الزخرفية التطبيقية، لذلك يتم الاستناد على علم الآثار، لاكتشاف أثر حضور أنوال الغزل البسيطة والبدائية، والتي لوحظ وجودها في العصر البروني الأوسط، وكيف يمكن جميعها أن تؤثر كحالة بصرية إبداعية بالتوازي مع قراءة الفن البدائي المكتنز

حديقة جوبوستان
في صخور حديقة جوبوستان الوطنية في أذربيجان، الغنية بالمنحوتات لأشخاص ومشاهد رقص وصيد وحيوانات برية وغيرها، وإسقاطها تأثيرها في المخزون البصري لممارسة النسج التفصيلي لسجادة الأذربيجانية، وصولاً إلى مسألة احتلال أذربيجان من قبل السلاجقة الذين تركوا آثاراً واضحة على فن السجاد، والذي يمكن اكتشافه عبر كتاب «الجد قرقود»، الذي يمثل أقدم أدب شعبي لدى الأذربيجانيين، يتضمن اثنتي عشرة حكاية أسطورية، نقلت بشكل شفهي، محتوياً على معلومات كثيرة حول أشكال حياة «الأغوز» واقتصادهم ومعتقداتهم وملابسهم وطرق تغذيتهم، و«الأوغوز» من تنحدر منهم الشعوب المعاصرة لتركيا وقبرص الشمالية والبلقان وأذربيجان وغاغاوزيا وتركمانستان، ولا يمكن التغافل أبداً، عن التأثير الاشتراكي السوفييتي على ألوان الفنون المحلية وإدخال التصوير الزيتي والرسم التمثيلي والنحت إلى أذربيجان، إضافة إلى الاستيلاء العربي لألبانيا القوقاز، الذي أضفى إثراء في مسارات الفنون المعمارية البصرية، من خلال بناء المعالم المعمارية الدينية، إضافة إلى أثر الفنون الإسلامية، وتطوير استخدام الزخرفة النباتية. 

 

دلالة مجتمعية
اللون الأحمر في السجادة يجلب الحظ والخير في حفلات الزواج، ويحرص على جلبها في المناسبات الاحتفائية في الثقافة الأذربيجانية، بالمقابل فإن للسجادة في مواقع مغايرة لها دلالة مجتمعية لمحاولة التغير، فعلى سبيل المثال، قدم الفنان الأذري جنكيز باباييف، العديد من الأفكار فيما يتعلق بالسجاد المفاهيمي، واضعاً رموزاً ودلالات للبحث وإعادة الاكتشاف، من بينها عمل فني لسجادة بعنوان «مقاومة»، يذكر فيها أن الغربان السوداء تصور المجتمع، بينما الغراب البرتغالي تمثل الشخص الذي يعيش مقاومة للمجتمع ورغبة دفينة لإحداث التغيير، وقد عمل جنكيز باباييف على العديد من مشاريع فن الأرض، وفيما يتعلق بالسجاد اليدوي، أعاد صناعة سجادة أذربيجانية، باستخدام الألوان العاطفية الزاهية.

إرث استثنائي
في رؤية آسرة لمتحف السجاد في أذربيجان، الذي تم تأسيسه فعلياً عام 1967، وتحديداً في موقعه الجديد بشكله الخارجي الشبيه بسجادة مطوية، كانحناءات منسابة فوق بعضها البعض، نذهب بحنو إلى قصائد الشاعر الأذري قاسم بك ذاكر، أحد مؤسسي الواقعية النقدية في الأدب الأذربيجاني، عندما يقول: «ولا ينبغي لأحد أن يحكم علي أو حتى يوبخني، أنني، قبل قوى الحب، أنحني بخنوع»، ففي تلك المطويات الساحرة للسجادة الأذربيجانية، انحناءات تكتنز تفاصيل تاريخية مهمة، قامت العديد من المراكز من مثل مركز نسيج السجاد AZER-ILME، بمحاولة إعادة الأنماط المنسية في العديد من المدارس، إضافة إلى سعيها لإعادة السجاد الذي أخذ إلى خارج أذربيجان، معتبرين أن حالة الغزل بتلك الخيوط الصوفية الممتزجة بالألوان الطبيعية، من خلال رموز أسطورية، إنما إرث استثنائي لا يتجزأ من تاريخ الإنسان على أرض أذربيجان، والتي تتطلب الجلوس بهدوء تام أمام النساجين من النساء والرجال وملاحظة تكوينات الغزل، وحاجتها الماسة لتلك الأيدي العازفة على الخيوط المشدودة لاستخراج صوت الشكل البصري، وجعله مسموعاً للعالم أجمع.

7 مدارس لأنماط الغزل
ينقسم السجاد الأذربيجاني إلى نوعين، الأول بـ «وبر» وله طريقتان في النسج، والثاني من دون «وبر» وله 7 طرق للنسج، ويعرف أن هناك 7 مدارس لأنماط الغزل في الثقافة الأذربيجانية منها مدرسة «قوبا»، مدرسة «أبشيرون»، مدرسة «شرفان»، مدرسة «غازاخ»، مدرسة «قره باغ»، مدرسة «تبريز»، مدرسة «باكو»، ولكل مدرسة أنماطها في النسج.
وبالاطلاع على جمالية سجادة «فيرني» الأذربيجانية مثلاً، باعتبارها من بين الأنواع الأكثر انتشاراً، إلى جانب سجادة «كليم» و«السماق» و«بالاس»، فإن سحر سجادة «فيرني» يكمن في عنصر «التنين»، المصمم على شكل S، ورمزيته الدالة على حماية الأسرة، وهو يعرف بين سرديات النساجين الأذربيجانيين ذوي الجذور البدوية في الحفريات الأثرية في مدينة مينجا تشيفير في أذربيجان اكتشفت زخارف التنين في أواني تأتي سجادة «فيرني» بمنسوج مسطح نمطها متناغم، وتعكس غنى تراث الفن الشعبي الأذربيجاني، ويتم استخدامها كسجادة جدارية أو غطاء سرير أو ستائر، واللافت في عملية نسج هذه السجادة كيف أن يمر عرض القماش بالكامل عبر أقدام الحائك، وهنا دلالة الاتصال التي يمررها النساجون إلى جّل الأهالي، ما يمنحهم مكانة وتقدير عالي في مجتمع أذربيجان.