بقلم: الدكتور عبدالله بلحيف النعيمي

لا ينفك كوكب الأرض في إرسال ما يمكن تسميته برسائل تحذيرية -قاسية في بعضٍ منها- لتنبيهنا من مخاطر الإفراط في التعامل مع موارد الطبيعة والإضرار بها، وتحفيزنا للتكاتف وتوحيد الجهود لحماية الإنسانية وضمان استدامة الحياة، فخلال الشهور القليلة الماضية شهد العالم أجمع تفاقماً يمكن أن يوصف بالحاد في تداعيات وتأثيرات التغير المناخي ضمت موجات غير مسبوقة لارتفاع درجات حرارة بعض المناطق، وفيضانات، وحرائق غابات، وتوقعات باحتمالية لتسجيل موجات مد بحري (تسونامي) عاتية.
وبصيغة شديدة اللهجة حذرت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ -التابعة للأمم المتحدة- في تقريرها «ملخص لصانعي السياسات»، من الاحتمالية الكبيرة لتدهور الوضع الدولي والتفاقم المتسارع لوتيرة وتأثيرات الكوارث الطبيعية، متوقعة أن الانبعاثات المستمرة لغازات الدفيئة ستزيد من تغير درجات الحرارة خلال العقد المقبل، كما يمكن أن يرتفع مستوى سطح البحر إلى ما يقرب من مترين بحلول نهاية القرن الجاري، واضعةً أملاً وحيداً في إنقاذ البشرية وحماية كوكب الأرض وضمان استدامة الحياة عليه، يتمثل في التكاتف الدولي وتوسيع وتسريع وتيرة العمل من أجل الإنسانية، وزيادة معدلات خفض انبعاثات الغازات الدفيئة لإحداث استقرار في درجات الحرارة المتزايدة.
وخلال العام الماضي فحسب، اضطر شخص كل ثانية إلى النزوح عن منزله أو منطقته بسبب الكوارث الطبيعية -التي يقف تغير المناخ وراءها- بالإضافة إلى النزاعات حول العالم، فوصل عدد النازحين إلى 40 مليون شخص، وسط تحذيرات من استمرار النزوح بسبب التغير المناخي، وفقاً لتقرير مشترك صادر عن مركز مراقبة النزوح الداخلي والمجلس النرويجي للاجئين.
والإشكالية الأكبر أن تأثيرات التغير المناخي لن تقف عند حد درجات الحرارة أو أمطار غزيرة وفيضانات يمكن بشكل ما الاحتماء منها أو النزوح من مناطقها، بل تطال بشكل فعلي المحرك الرئيس لحياة الإنسان، تطال الغذاء، فوفقاً للتقرير العالمي عن أزمات الغذاء لعام 2020، تتسبب الظواهر المناخية المتطرفة في ارتفاع معدلات الجوع وانعدام الأمن الغذائي في العالم، فخلال 2019 عانى 34 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد الناجم عن أحوال الطقس بزيادة قدرها 17% عن 2018، ومن المتوقع أن ترتفع هذه الأرقام، حيث يعيش أكثر من 80% من أكثر الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي في العالم في البلدان المعرضة للكوارث الطبيعية.
وما يعطينا مؤشراً ورسالة لضرورة وأهمية العمل من أجل الإنسانية أن هذا التقرير الذي صدر في 9 أغسطس الجاري جاء على بُعد أيام قليلة من ذكرى اليوم العالمي للعمل الإنساني الذي تحل احتفاليته في 19 أغسطس من كل عام، رسالة مفادها أن القدرة على مواجهة التحدي الأكثر تهديداً لمستقبل كوكبنا تعتمد على العمل الإنساني والذي يشمل بعدين رئيسيين، الأول: المسارعة لخفض مسببات هذا التغير، والثاني: مساعدة الدول والمناطق المتضررة جراء تداعيات التغير المناخي على التعافي منها والتكيف معها.
وفي هذا الإطار قدمت دولة الإمارات بفضل رؤية وتوجيهات قيادتها الرشيدة نموذجاً عالمياً وضعها في صدارة الدول في المساعدات والعمل الإنساني وبالأخص في أوقات الكوارث والأزمات، فبشكل عام تجاوزت قيمة المساعدات الإنسانية التي قدمتها الدولة 28.5 مليار درهم دعمت عبرها 42 دولة حول العالم.
وخلال الشهور القليلة الماضية فحسب، ساندت الإمارات عبر منظومة عمل متكاملة العديد من الدول والمناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية وتداعيات تغير المناخ، حيث تواجدت في قلب أحداث فيضانات ولاية يهانج الماليزية في يناير الماضي عبر باقة واسعة من المساعدات ضمت مستلزمات إيواء ومواد غذائية وصحية.
وفي السودان كان لها تواجد واسع لمساعدة متضرري موجة السيول والفيضانات التي اجتاحت عدداً من الولايات السودانية العام الماضي، وفي جزيرة سولاويزي الإندونيسية، ومنطقة جبل «نيراجونجو» في الكونغو الديمقراطية، كان للإمارات حضور قوي لمساعدة متضرري كوارث الزلازل والبراكين، بالإضافة إلى جهودها الإغاثية المستمرة حتى الآن لمواجهة كارثة حرائق الغابات في اليونان.
الأهمية والريادة التي يمثلها نموذج الإمارات في العمل الإنساني العالمي من أجل المناخ تنبع هنا من شمولية لمتطلبات العمل المناخي، فالمساعدات الإنسانية الإماراتية لم تقف عند حد دعم المتضررين للتعافي من آثار تداعيات التغير المناخي، وإنما شملت المساعدة لتطوير إمكانات الدول وتعزيز قدراتها على التكيف مع هذه التداعيات والمساهمة في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، حيث قدمت مساعدات تنموية بقيمة تفوق مليار دولار لإنشاء محطات لتوليد الطاقة المتجددة في 70 بلداً، وعبر شراكة بين الوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» وصندوق أبوظبي للتنمية، تم تمويل وتنفيذ مجموعة من مشاريع الطاقة المتجددة في الدول الجزرية للمحيط الهادي والبحر الكاريبي بقيمة وصلت إلى 350 مليون دولار.
وللمساعدة على إيجاد نموذج إقليمي للعمل المناخي يتوافق مع طبيعة منطقتنا، تم إطلاق شبكة الإمارات لأبحاث المناخ لتمثل منصة بحثية متطورة لعلوم المناخ.
ولاستكمال مسيرة العمل الإنساني من أجل المناخ وتحفيز وتيرته، تقدمت دولة الإمارات مؤخراً بملف متكامل لاستضافة فعاليات مؤتمر دول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن المناخ (كوب 28) في العام 2023.
كل هذا الجهد الذي استمر على مدار عقود لم يكن يوماً إلزامياً على دولة الإمارات، بل جاء -طوعياً- متوافقاً مع النظرة الاستشرافية للقيادة الرشيدة التي تستهدف ضمان إيجاد مستقبل أفضل للأجيال الحالية والمقبلة للدولة وللعالم أجمع، الأمر الذي يجب أن يشكل نهجاً يجب أن تتكاتف وتتضافر على تطبيقه مكونات المجتمع الدولي كافة من دول وحكومات ومؤسسات (حكومية وخاصة) وحتى الأفراد، لنحمي كوكبنا ونحافظ على استمرارية حياتنا عليه.
وتزامناً مع اليوم العالمي للعمل الإنساني، يجب أن نؤكد جميعنا على التزامنا بالعمل من أجل بيئتنا، من أجل كوكبنا، من أجل حياتنا وأجيالنا المقبلة، من أجل الإنسانية والحفاظ على استدامتها.

وزير التغير المناخي والبيئة