أبوظبي (الاتحاد)
عقد مركز «تريندز للبحوث والاستشارات»، حلقة نقاشية عن بُعد تحت عنوان «التكنولوجيات العسكرية الصاعدة ومستقبل الأمن العالمي»، بمشاركة نخبة من الخبراء في قضايا التكنولوجيا العسكرية والأمن والاستراتيجية، لمناقشة الاتجاهات الجديدة في التكنولوجيا وآثارها على مستقبل الأمن العالمي.
أدار فعاليات الحلقة النقاشية د. كريستيان ألكساندر، الباحث بمركز «تريندز للبحوث والاستشارات»، واستهلها بالإشارة إلى أن العالم يشهد تنافساً في امتلاك تقنيات عسكرية متقدمة ستغيّر شكل حروب المستقبل، خاصة أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي باتت تدخل بشكل رئيسي في العديد من الاستخدامات العسكرية. وأوضح د. كريستيان ألكساندر أن اعتماد التكنولوجيات العسكرية الصاعدة على الذكاء الاصطناعي، قد يؤدي إلى تهديد الأمن والاستقرار الدولي، خاصة في ظل تزايد توظيف هذه التكنولوجيا في الهجمات السيبرانية، وحصول بعض التنظيمات المتطرفة والإرهابية على هذه التكنولوجيا.
تطورات واختراقات
وعن تأثير التشغيل الذاتي والذكاء الاصطناعي في الأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي، تطرق «د. جان مارك ريكلي»، رئيس قسم المخاطر العالمية والناشئة بمركز جنيف لسياسة الأمن بسويسرا في مداخلته، إلى أن التطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي المدفوعة بالقوى الحاسوبية المتنامية وارتفاع كمية البيانات المستولَدة وتحسّن خوارزميات التعلُّم الآلي، أدت إلى اختراقات كبيرة، مثل سلسلة خوارزميات «ألفا» التي طورتها «ديب مايند Deepmind» التابعة لشركة «جوجل» أو برمجيات «ليبراتوس Libratus»، التي طورتها جامعة «كارنيغي ميلون».
وتتطور هذه التكنولوجيات بسرعة كبيرة وتنتشر أفقياً «عبر الدول» ورأسياً «من الدولة إلى الفاعلين غير الحكوميين». وينذر هذا باحتمالات مقلقة بشأن الاستخدامات الخبيثة الممكنة لهذه التكنولوجيا وكيفية الحيلولة دونها. وأظهرت التطورات الأخيرة في الحرب الروبوتية، إضافة إلى انتشار طائرات «الدرون» وطائرات «الدرون» الانتحارية، ميزتها الهجومية في الحروب الأخيرة. كما حدث في سوريا أو ليبيا أو ناغورنو-كاراباخ.
تحديات «الدرون»
ولفت رئيس قسم المخاطر العالمية والناشئة بـ«مركز جنيف لسياسة الأمن بسويسرا» النظر إلى أن الحرب الأخيرة في ناغورنو-كاراباخ، أظهرت القوة المدمرة لطائرات «الدرون» المزودة بقدرات استطلاعية وذاتية التشغيل متزايدة، فخلال ستة أسابيع من القتال، خسرت أرمينيا 47% من مركباتها القتالية و 93 % من مدفعيتها. وهذه نتيجة مذهلة تحققها دولة صغيرة. وإضافة إلى ما سبق فإن هذه التكنولوجيا تصل إلى جهات فاعلة غير حكومية، حيث أظهر تنظيم «داعش» خلال معركة الموصل في عام 2017 أنه قادر على تشغيل أسراب من طائرات الدرون المسلّحة، وإن كانت ليست ذاتية التشغيل. كما أن معظم الهجمات المدمرة التي تعرضت لها مرافق شركة أرامكو السعودية في بقيق وخريص في سبتمبر 2019 تم تنفيذها بسرب من صواريخ كروز وطائرات «درون» مسلحة.
وأكد «ريكلي» أن النمو السريع في التطورات التكنولوجية في مجال الحرب الروبوتية والذكاء الاصطناعي، يفرض على المخططين الاستراتيجيين أن يضعوا في اعتبارهم أن التشغيل الذاتي سيكون محركاً رئيسياً في الحرب المستقبلية. ويشي اجتماع هذه التكنولوجيات مع التقدم المحقق في تسليح التكنولوجيا العصبية بآفاق استراتيجية مقلقة. وما يثير القلق أكثر هو تأثير هذه التطورات في الاستقرار الاستراتيجي.
سباق تسلح جديد
وحول البيئة الأمنية العالمية، وما تحمله من اتجاهات مستقبلية ومخاطر وفرص، أشار د. إيلاي سالتزمان، أستاذ مساعد زائر للدراسات الإسرائيلية في معهد إسرائيل، بجامعة ماريلاند في كوليدج بارك، بالولايات المتحدة الأميركية، والعضو بمجلس إدارة «المعهد الإسرائيلي للسياسة الإقليمية الخارجية» «ميتفم»، إلى أن معظم التكنولوجيات العسكرية الصاعدة تشجع على الاعتداء ومن ثَم تجعل وقوع النزاع المسلح أكثر احتمالاً. وحتى التكنولوجيات الأكثر دفاعيةً نسبياً لها تأثير متناقض، ويُنظَر إليها باعتبارها مسهِّلة للإفلات من العقاب، وربما تؤدي إلى زيادة انعدام الأمن في الواقع.
ولفت «سالتزمان» الانتباه إلى أن كلاً من المعرفة والموارد اللازمة لتطوير هذه التكنولوجيات وتصنيعها يمكن أن تصبح مصدراً للخلاف العالمي، ومن المؤكد أن الاعتماد المتزايد على هذه التكنولوجيات الحديثة سوف يفضي إلى سباق تسلُّح يمكن أن يفاقم التوترات القائمة أصلاً أو يشعل توترات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
وخلص «سالتزمان» إلى أن تنظيم طريقة استخدام هذه التكنولوجيات يعد إحدى السبُل لتجنب مخاطرها الضارة. وعلى نسق الاتفاقات والمعاهدات والنُّظُم التي أُقيمت لمعالجة مشكلة انتشار الأسلحة النووية، يمكن للمجتمع الدولي، ويجب عليه، أن يضع بعض القواعد الأساسية وأن يستحدث نوعاً من أنواع الحوكمة، من أجل التخفيف من الآثار السلبية المحتملة لهذه التكنولوجيات.
إعادة صياغة حروب المستقبل
وعن التكنولوجيا ومستقبل الحروب، استشرف د. جون أنتوني هاردي مساعد عميد الدراسات العليا بأكاديمية ربدان بدولة الإمارات العربية المتحدة طبيعة تأثير التكنولوجية العسكرية في إعادة صياغة حروب المستقبل، مشيراً إلى أن التقدم التكنولوجي وانتشار التكنولوجيا العسكرية أثّر على شكل التدريب العسكري وعقيدة الجيوش، والتكتيكات في ساحات القتال، وبناء العمليات العسكرية وتصميمها.
وأوضح «هاردي» أن الحرب المعاصرة تميزت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، باتجاهات تكنولوجية رئيسية أولها: تزايد دقة الذخائر التي تمكّن الجيوش من العثور على الأهداف وإصابتها من دون إحداث خسائر جانبية، وثانيها: تزايد القوة الفتاكة والقدرة التدميرية لتكنولوجيا الأسلحة المستخدمة في ساحة المعركة، وثالثها: الاستخدام المتزايد لأجهزة الاتصالات وأنظمة بيانات ساحة المعركة باعتبارها عناصر قوة تكتيكية تسمح بتحقيق مستويات تنسيق أفضل بين عناصر الجيش، ورابعها: انخفاض معدل القتلى بين صفوف الجيوش.
المحركات الأربعة للتكنولوجيا العسكرية
وأضاف «هاردي» أن هناك أربعة محركات ناشئة في مجال التكنولوجيا العسكرية، من المرجح أن تؤثر على الجيل التالي من الحروب في القرن الحادي والعشرين: المحرك الأول: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والثورة الصناعية الرابعة، هذه التكنولوجيا التي ستستمر في التقدم، وفي تشكيل المجال المعرفي. كما ستساعد في عملية صنع القرار على جميع مستويات القيادات العسكرية.
المحرك الثاني: الذكاء الاصطناعي والأنظمة المستقلة أو شبه المستقلة التي ستستمر في التطور. المحرك الثالث: الأسلحة فوق الصوتية والإجراءات المضادة التي سيستمر التقدم في التكنولوجيات المرتبطة بها وتعزيز فعاليتها وقدرتها الضاربة، الأمر الذي سيضاعف من مستويات الضغط، في الوقت ذاته، على الأنظمة الدفاعية وحتى على دوائر اتخاذ القرار العسكري. المحرك الرابع: التكنولوجيا الحيوية ذات التطبيقات العسكرية، والتي بدورها ستستمر في التقدم بما يصب في تعزيز الفعالية القتالية والقدرة على المحافظة على حياة الجنود، وربما زيادة القدرات الحربية الفردية.
الذكاء الاصطناعي «يحكم العالم»
وبدوره، أكد الأستاذ أحمد محمد الأستاد المدير العام لمركز «تريندز للبحوث والاستشارات» أن العالم يعيش الآن عصر الذكاء الاصطناعي، الذي بات ركيزة تطور الصناعات العسكرية والدفاعية، وأصبح أحد أهم معايير قياس القوة والنفوذ في النظام الدولي، ولهذا تتنافس القوى الكبرى فيما بينها على التفوق والريادة في هذا المجال، حتى إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح في أحد المناسبات أن من سيقود «الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم»، وذلك في إشارة واضحة على تصاعد الوزن النسبي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ليس فقط في الاستخدامات العسكرية، وإنما أيضاً في الاستخدامات المدنية، على النحو الذي بدا واضحاً في التعامل مع جائحة «كوفيد - 19». وأشار الأستاد إلى أن حروب المستقبل لم تُعد ذا طابع عسكري وحسب، وإنما باتت هجيناً من الحروب الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والسيبرانية. وخلص الأستاد إلى أن العالم في حاجة الآن إلى التعاون في مواجهة التحديات التي تهدد أمنه واستقراره.
أدوار جديدة
أوضح الدكتور محمد عبدالله العلي، أن هذه المفاهيم الجديدة ستعيد صياغة أدوار الجيوش والتكنولوجيات العسكرية في المستقبل، فالجيوش باتت تقوم بدور فاعل ورئيسي في التصدي للأوبئة والأزمات الطارئة بوجه عام، والتكنولوجيا العسكرية لم تعد تقتصر فقط على إنتاج المعدات العسكرية اللازمة للجيوش، وإنما انخرطت في الصناعات الدوائية والطبية لسد أي نقص نتيجة الأزمات والكوارث المحتملة. وأشار الدكتور محمد العلي إلى أن الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم الآن ستعيد صياغة حروب المستقبل بعد تزايد اللجوء إلى الهجمات السيبرانية كأهم أدوات الجيل الجديد للحروب، خاصة أنها تحقق أهدافها بكفاءة وفاعلية ودون أن تكلف الدول مبالغ مالية طائلة، مقارنة بأدوات الحروب التقليدية.
بيئة أمنية أكثر تعقيداً
وعلى هامش فعاليات هذه الحلقة النقاشية، أكد الدكتور محمد عبد الله العلي، رئيس مجلس إدارة «تريندز»، أن العالم شهد في الآونة الأخيرة تحولات جوهرية في العديد من المفاهيم والنظريات الأمنية والعسكرية التي سادت لعقود طويلة، لصالح مفاهيم جديدة تأخذ في الاعتبار الواقع الجديد الذي يعيشه العالم الآن في ظل جائحة «كوفيد - 19»، فالأمن لم يَعد يقتصر فقط على الأبعاد العسكرية والدفاعية وفقاً للنظريات التقليدية، وإنما بات يتضمن أبعاداً أخرى، سياسية وأمنية وصحية وثقافية واجتماعية وتكنولوجية، لم يعد بالإمكان تجاهلها لدى مخططي السياسات الدفاعية والأمنية في العالم، خاصة بعد أن كشفت جائحة «كوفيد - 19» أن انعدام الأمن الصحي- الناجم عن نقص الأدوية والمستلزمات الطبية- ربما يفوق في خطورته التهديدات الأخرى.
علاقة مستمرة في القرن الحادي والعشرين
خلص د. جون أنتوني هاردي، مساعد عميد الدراسات العليا بأكاديمية ربدان بدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى أن العلاقة بين التكنولوجيا والحرب ستستمر في التطور طوال القرن الحادي والعشرين، بما سيعزز من مستويات التكامل بين المقاتلين والأنظمة التكنولوجية التي تعزز بدورها من الفعالية القتالية للجيوش. كما سيؤدي توسع دائرة تطبيقات التكنولوجيا، في الوقت نفسه، إلى تمكين الجهات الفاعلة، التي تمتلك المال وروح المبادرة، من تبنّي التقنيات الناشئة، ونشرها في ساحات القتال المستقبلية.
تنظيم الحرب الروبوتية
أكد د. جان مارك ريكلي، رئيس قسم المخاطر العالمية والناشئة بمركز جنيف لسياسة الأمن بسويسرا، أن أسراب طائرات «الدرون» تشير إلى أنه لا توجد حالياً أي منظومة دفاعية قادرة على مواجهتها بفعالية؛ لأن هذا يتطلب تشكيلة من أجهزة الاستشعار وأجهزة التوجيه المختلفة التي يتم نشرها عبر الأنظمة المختلفة. وتكمن، في النهاية، خطورة هذه التكنولوجيات في أنها سوف تزعزع الاستقرار الاستراتيجي العالمي بسبب تفوق قدراتها الهجومية والدفاعية على حد سواء. ويمكن أن يؤدي هذا إلى انتشار الاستراتيجيات الاستباقية، ومن ثم يقوِّض نظام عدم استخدام القوة المنصوص عليه في المادة 2.4 من ميثاق الأمم المتحدة. لذلك ومن أجل الاستقرار الدولي والسلام العالمي، من المهم أن يضع المجتمع الدولي مبادئ عالمية لتنظيم الحرب الروبوتية، ومنع أي استخدامات خاطئة وخبيثة لها من جانب الدول والفاعلين غير الحكوميين.