محمد عبدالسميع
الأغنية الشعبية هي مخاضٌ مجتمعيٌّ ومزيجٌ من تركيبة المجتمع الثقافية، وما يدخل إليه من ثقافاتٍ بحكم الجوار والسفر والأطياف السكانية، خلال رحلة الإنسان في الجغرافيا البشرية، وإذا نحن تحدثنا عن الأغنية الشعبية الإماراتية، كجزءٍ من الإفرازات الثقافية الخليجية والعربية والإنسانية، فإنّ هذه الأغنية أسهمت وبشكلٍ كبير، في أن تكون مرآةً عاكسةً لثقافة المجتمع وتطلعاته وتركيبته الاجتماعية، وإذا أردنا أن نربط بين ثقافة الحلم أو رومانسية الإنسان وطبيعته المتسامحة وأريحية التعاطي مع رحابة الحياة واتساعها، فإنّ هذه الصفة بالتأكيد تنطبق وبكل امتيازٍ، على الأغنية الإماراتية التي أخذت مفرداتها وألحانها من حركة الناس، من بحرهم وشطآنهم، ومن حركة السفن، وجلبة «النواخذة» في عرض البحر، ومن لوعة واشتياق المحبين في السفر، ومن أديم الصحراء وجفاف البعد، ومن الكلمات التي صيغت تحت ظلّ «سِدرة»، أو قريباً من قافلةٍ كانت توشك على الوداع.
هذه مقدمةٌ شبه رومانسية، توخّينا منها قبل أن ندخل إلى الموضوع الرئيس، أن نؤكّد أنّ الأغنية مؤثرةٌ ومتأثرةٌ، وأنها لم تنبت من فراغ، وأنّ أغصانها الوارفة، كانت تُسقى من تربةٍ ثقافيةٍ صالحةٍ للإبداع، ومهيأة للاتساع والتعبير عن ظروف وطبيعة الحياة.
إذا كان السرد الإبداعيّ، قصة، رواية، خاطرة، مقالة، نصّاً سينمائياً، أو نصّاً مسرحياً، أو أيّ قطعةٍ أدبية، وإذا كان الشعر أيضاً في طليعة الأعمال الأدبية، بصفته ديوان العرب، بشقّيهِ الفصيح والنبطيّ،.. فإنّ كلّ ذلك المزيج كان مرافقاً للأغنية في نشأتها وسيرورتها، فأخذ منها وأخذت منه، والشواهد على ذلك كثيرة، إن نحن أخذنا أيّ مقطعٍ يحمل ذلك التأثّر والتأثير.
أما الذائقة الإبداعية، فهي استحسان الأديب أو الكاتب أو الفنان لما يراه مؤثراً ويقع في قلوب الناس والنظارة أو الجمهور موقع الاستحسان والمشاهدة، والاستماع، أو التعبير عن ذلك بالثناء والمديح، ولهذا فإنّ الأغنية الشعبيّة التي حملت الموروث الإماراتي وعبّرت عن واقع الأزمنة القديمة والمعاصرة والمستقبلية هي لونٌ إبداعيٌّ يستحق أن يُشاد به ويُذكر في قائمة المؤثرات الوجدانية لدى الشعوب، بما يحمله كلّ ذلك من رؤى وأفكار.
اقرأ أيضاً:
القصيدة الشعبية الإماراتية.. شواهد من بديع الصورة
أدباء وفنانون: الأغنية الشعبية إبداع عابر للفنون
مادة ثقافية
كُتب الكثير عن الأغنية ودورها في حمل الثقافة وتطورها مع الزمن، وربما يجدر أن نلتفت إلى التراث غير المادي أو التراث الحكائي أو الشعبي المرويّ من الأمثال والقصائد، باعتبارها كلماتٍ مغناةً أو تصلح لأن تُغنى بحركات وتهذيباتٍ معينة للألفاظ، لسهولة الأداء والتواصل، وباعتبارها أيضاً مادةً ثقافيةً تحمل ما يجول في أذهان الناس، وفي هذا فإن الدعوة مفتوحةٌ كمقترح، لأن نبحث في أصول هذه المقطوعات الغنائية واللحنية، من حيث مدى تقاطعها - أيّ اشتراكها - مع القصائد الشعبية، باعتبارها الأكثر شهرةً في أخذها مادةً غنائيةً محمولةً على الموسيقى واللحن، ناهيك عن أنّ الكاتب أو الأديب نفسه، ربما، وفي حالات إبداعية، يستعير من الأغنية الشعبية طقوسها وحضورها في وصف مشاهد أقرب للدراما، مما يهيّج الذاكرة ويمنحها عبقاً ورونقاً تحلو خلاله الكتابة، كطقسيةٍ ملائمة.
أمّا عن شواهد الأخذ المتبادل للأغنية وفنون الإبداع، فإنّ الأمر يحتاج إلى صفحات كثيرة، لمجرّد أن نعدّد أو نضع قائمة بالأشعار المستلهمة في الغناء أو الأمثال أو المكان الشعبي، كمحرّض على الإبداع من خلال الكلمة المغناة.
لقد برزت ظاهرة التعاون والتآخي والعمل الجماعي في رحلات الغوص على سبيل المثال، فيما مرّ بنا من قصائد لشعراء كبار ومرّت معنا كذلك تلك المقطوعات الرائعة لشعراء رواد وشاعرات رياديّات في الإمارات كانت الأبيات لديهم وليدة هذا الشعور الذي لا يمكن أن يبقى حبيس الصدر دون أن يخرج ويلتقطه «النهّامون» لكي يصدحوا به، وفي الحقيقة هم يجدون في العمل متنفساً لنسيان الحنين الذي يشدّهم إلى عائلاتٍ في لقاءات مؤجلة، لحين الانتهاء من رحلة الغوص، وهذا مثالٌ من أمثلة عديدة في وصف الغزل بالمحبوب، والتشبب به وبصفاته، بل إننا إذا ذهبنا إلى أغاني فنانين إماراتيين في الثمانينيات والتسعينيات، وما قبل هذه العقود، سنجد الحياة حاضرةً من خلال أغنية هي في الأساس قصيدة لشعراء كبار، وعلى هذا اتبعت الأجيال الدرب ذاته في الغناء للبحر والصحراء.وربما نجد شاعرة رافقت القوافل، وقالت أجمل ما لديها من أشعار في مكان تمرّ عليه يومياً وتأنس به، ويظلّ في الذاكرة وتعيد إفرازه على شكل حواريةٍ مع جمل على سبيل المثال!
ومن اشتغالاتنا وقراءاتنا للشعر النبطي والشعبي في كل أرجاء دولة الإمارات العربية المتحدة، فإنّ القصائد التي تداولناها وقرأناها تحمل، علاوةً على صورتها الفنية وتشبيهاتها واستعاراتها الجمالية، التراث المتوارث الذي ينبغي ألا يتضاءل أمام معطيات الحضارة وروح العصر، فالتراث عنصرٌ مهمٌّ منذ أن دعا إليه الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في أرشيف تراثي وطني يُجمع وتظلّ تفتخر به وتستخدمه الأجيال.
والأهم لدينا من ذكر شواهد الشعر في الأغنية، على أهمية ذلك وضرورته، تقديم توصية أو مقترح بأن يحمل الأديب أو كاتب الرواية أو القصة أو النصوص السينمائية والمسرحية التراث في الحوارات وأسماء الأشخاص، وأن تكون الأغنية حاضرةً في هذه النصوص على شكل مقطوعاتٍ دالةٍ يُعالج حضورها دون تكلّفٍ وبطريقةٍ فنية انسيابية تتناسب مع جوّ النص، بحيث لا تبدو المقطوعة الغنائية أو الشعرية مقطوعةً مقحمةً على النص.
استمرار الوهج
إنّ قيماً وعادات وتقاليد راسخة حملتها الأغنية الشعبية، وما نشاهده اليوم من روحٍ إماراتية أصيلة تكتنف روح العصر ومعطياته، من خلال الشلّات والأغاني الشبابية ورقصات الحماسة والدفاع عن الأوطان وشلّات المناسبات الوطنية والعاطفية، كلّها مفردات تُفرح البال وتُبهج الخاطر، ونحن نستذكر تطوّر الدولة في تراثها ومعطياتها مع التقدّم والحضارة، دولةٌ وصلت مرتبةً عاليةً من الحضور الحضاري، ولكنها لا تزال متمسكةً بأساساتٍ وقواعد متينة كان البناء عليها مدروساً للنهضة الثقافية والعلمية والإدارية الشاملة في كلّ شؤون الحياة. ولدينا في قراءة تطوّر الأغنية الشعبية وألحانها الكثير من المصادر والمراجع العلمية والصحفية والمواد الإعلامية، ما يجعلنا نؤكّد أنّ بقاء الجذوة مشتعلةً هو ما نرمي إليه ونؤطّره، فنجعل الأجيال تفرح بالمفردة الغنائية الغربية مثلاً، ولكنّها في الوقت ذاته تولي الأغنية الشعبية الأصيلة حضورها، لكي يستمر الوهج، وهو ما ينطبق على الموسيقى وألحانها ما بين التراثي والأجنبيّ، وتلك توليفةٌ رائعةٌ إن حافظت عليها الأجيال، فالعرس الإماراتيّ على سبيل المثال، ظاهرة تراثية ممزوجة بالغناء الشعبيّ ومفردات هذا العرس وأيامه، وبالتالي فإنّ بقاء هذه الأغنية حاضرة هو هدفٌ مهمٌّ يصل الأجيال ببعضها، ويجعل من التأثّر والتأثير الإبداعي مستمراً من دون إهمالٍ أو إقصاء. مطربون ظهروا في فتراتٍ قديمة، وتحدوا الصعوبات، ووجدوا في اتحاد الدولة مطلع السبعينيات من القرن الماضي، فرصةً ذهبيةً لأن تتلاقى وتلامس أغانيهم وتتخلل الأعمال الدرامية والإبداعية والمسارح والكتابات الروائية والقصصية وكتابات السيرة والمكان الإماراتي.
إنّ المتتبّع اليوم للأغنية الإماراتية وطُرق التعبير من خلالها بمصاحبة الموسيقى وطقوس الرقص والأداء، سيجد أنّ دعم ورعاية الدولة له أثر رئيس وكبير في تأكيد هذا الحضور، ولنذكر على سبيل المثال لا الحصر، فنون الرزيف والعيّالة والحربية، كفنون إماراتية تشترك مع محيطها الخليجيّ والعربي بمسمّيات مختلفة وروح واحدة، وربما تأثرت أدواتها وطريقه أدائها بتنافذ الإمارات على بلدان آسيوية وأفريقية فيما مضى، انطلاقًا من لقاء الثقافات الجميل والحضاريّ عبر البحر. وليس من فراغٍ أن نجد «ندبة الشحوح»، على سبيل المثال، حاضرةً كتراث إماراتيٍّ متنوع، وأن نجد أغاني البحر والبادية وتفصيلات موسيقى وطريقة كتابة الشعر المكتوب للغناء، في القوافي والألفاظ والبحور الشعرية، بل إنّ الْمَشاهد الحياتية جميعها كانت مُتَضَمَّنةً في طريقة أداء الأغاني والرقصات، باعتبارها تعبّر عن ثقافة مجتمعٍ أصيلٍ له معطياته الضاربة الجذور في عمق التاريخ.