نعيش عصراً أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً أصيلاً من مفردات الحياة اليومية لنا جميعاً. وطرأت الكثير من التغيرات على مفاهيم الخصوصية والتفاعل الاجتماعي، وحتى تغيرت مقاييس الثقة بين أفراد المجتمع. ولم يعد الفضاء الرقمي وشبكة الإنترنت وسائل للتسلية وضياع الوقت في التعارف وغيره، بل تحولت إلى ساحة علاقات مجتمعية متشابكة ومتقاطعة تترتب عليها آثار اجتماعية تمس الأفراد والمجتمعات.
وأصبح الفضاء الرقمي مصدراً للقلق على الأمن المجتمعي. تتعدد مهددات الأمن المجتمعي المرتبطة بالفضاء الرقمي، ومن أهم تلك المهددات: الإشاعات لم تعد تنتشر ببطء، وفي نطاق محدود كما كانت في الماضي، بل أصبحت تنتشر بسرعة فائقة، فيكفي أن يطلق أحدهم خبراً زائفاً من دون تحقق أو مسؤولية، وخلال دقائق معدودة سيكون الخبر انتشر بين الصفحات المختلفة، وتحول من مجرد شائعة إلى حقيقة زائفة مستقرة في ذهنية المتفاعلين، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث حالات من الذعر والخوف أو الفتنة أو تضليل حول قضية من القضايا التي تهم الرأي العام، وقد تؤثر بطريقة مباشرة في تغير اتجاه الرأي العام في اتجاه معاكس للحقيقة؛ ومن هنا يصبح الفضاء الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي وسيلة تضليل للوعي الجمعي وشحناً للتفاعل السلبي العاطفي بين أفراد المجتمع ، ونحن لسنا ببعيد عن دور شبكات التواصل الاجتماعي في تأجيج الأوضاع خلال ما عرف بالربيع العربي قبل سنوات.
ويأتي الابتزاز الإلكتروني أحد أخطر الظواهر التي تترك أثراً عميقاً في الأمن المجتمعي بتأثر الأفراد وتوتر حياتهم، وخاصة أننا نعيش في مجتمعات أحياناً ما تُحمل الضحية مسؤولية ما تعرضت له بصورة كاملة من دون النظر في الأبعاد ولا التفاصيل التي أدت إلى ذلك فكثير من الفتيات قد يتعرضن للابتزاز الإلكتروني عبر سرقة محتواهم من على الهواتف، أو على شبكات التواصل الاجتماعي وخاصة مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي يصبح الإفصاح عن الابتزاز الإلكتروني والإبلاغ عنه مخاطرة كبيرة للضحية وخاصة من الفتيات والنساء وحتى الشاب أحياناً خوفاً من نظرة المجتمع لهم وأحياناً يكون المجتمع قاسياً مع الضحايا مما قد يحولهم إلى أفراد كارهين للمجتمع أو مضطربين نفسياً واجتماعياً؛ مما يمثل تهديداً صريحاً للأمن المجتمعي، لذلك هؤلاء يحتاجون إلى احتضان المجتمع لهم والمساندة في مواجهة الجريمة التي أرتكبت في حقهم.
هذان نموذجان للتحديات الرقمية التي لا تحدث من فراغ، ولا تؤدي إلى لا شيء، بل تخلق آثاراً مجتمعية حقيقية، وتتأثر العلاقات الأسرية والمجتمعية، وقد يصل المجتمع في حال تفاقم تلك الأحداث إلى حالة انعدام الثقة بالتعامل بين أفراد المجتمع، وتضعف روابط التواصل الحقيقية بين الأفراد، وتتسع الفجوة بين الأجيال، وتتغير سلوكيات الأفراد بصورة جذرية قد تنعكس سلباً على الهوية الثقافية للمجتمع، وتسيطر مجموعة من المفاهيم المشوهة عن الخصوصية، وتهتز العلاقات الأسرية بصورة عميقة.
وسط هذه التحولات المقلقة، نجد دور الدولة ركناً مهماً في العمل على مقاومة تلك المهددات الرقمية، وتُعد دولة الإمارات من أوائل الدول التي تنبهت لتلك الأبعاد السلبية والمهددات الرقمية، فاعتمدت استراتيجية وطنية للأمن السيبراني تستهدف خلق بيئة رقمية آمنة تعزز الثقة، وتحمي المجتمع وعملت على تطوير تشريعات صارمة تحاصر الجرائم الإلكترونية، وتحمي خصوصية الأفراد، وتدعم الضحايا لهذه الجرائم من خلال وجود مسارات واضحة للإبلاغ والتعامل مع تلك الجرائم في إطار من السرية وحماية الخصوصية .
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط التشريعات والتقنيات اللازمة للحماية، بل نحتاج إلى وعي مجتمعي موازٍ مؤمن أن الأمن الرقمي قضية مجتمعية بامتياز ومؤثر حقيقي ومباشر على الأمن المجتمعي. نحتاج إلى ثقافة تحمي الفرد، وتمنحه الثقة والاحترام في حال تعرضه لأي ابتزاز إلكتروني وتعلم الطفل كيف يستخدم التقنيات بدون خوف وبوعي كاف يجعله يدرك كيف يفرق بين الإشاعة وبين الخبر الحقيقي . الأمن الرقمي والوعي الرقمي وجها عملة واحدة لم يعودا ترفاً ولا رفاهية، بل ضرورة تتوازى مع أساسيات الحياة اليومية في عالم أصبحت فيه حياتنا كلها مكشوفة عبر الشاشات الزرقاء وتفاصيلها مخزنة في ذاكرات لا نعرفها، لكنها تعرف عنا كل شيء .
*باحثة إماراتية في الأمن الاجتماعي والثقافي، أستاذ زائر بكليات التقنية العليا للطالبات، أستاذ زائر بجامعة الإمارات العربية المتحدة.