عندما تم اختيار خورخي ماريو بيرغوليو في الثالث عشر من مارس 2013 ليعتلي الكرسي الرسولي تحت اسم البابا فرنسيس، لم يكن ذلك انتقالاً شكلياً من موقعه السابق كرئيس لأبرشية بيونس آيرس بل كان إيذاناً بظهور صوت عالمي في الدفاع عن الكرامة الإنسانية وتعزيز ثقافة السلام.

ومنذ الأيام الأولى لحبريته، أطلق البابا القادم من بيئة بسيطة خطابًا يلامس القيم الكبرى التي تتقاطع عندها الضمائر: الرحمة، والتواضع، والسلام، وقد برزت في توجهاته ملامح قائد أخلاقي عالمي، يتحدث بلغة إنسانية سامية تجعل من الإنسان القيمة المركزية في بناء الحضارات الحية. ولقد تميزت مسيرته بنهج منفتح على الأديان والحضارات حيث حرص على فتح آفاق جديدة للتعارف والتواصل بين الشعوب، ومَدَ جسوراً صادقة للحوار والتقارب.

فمن المغرب ومصر إلى دولة الإمارات، ومن العراق إلى البحرين، مروراً بإندونيسيا، ظل يحمل في كل محطة رسالة الأخوّة الإنسانية، مؤكداً على أن السلام لا يُبنى إلا على أسس راسخة من الاحترام المتبادل، والاعتراف بالآخر كشريك حقيقي في الوجود والمصير. لقد حمل فرنسيس نداء الأخوّة، بوصفه قناعة إيمانية وأخلاقية، مؤمناً بأن الأديان، عندما تصغي إلى جوهرها النقي، تتحول إلى جسور لا جدران، ومرافئ لقاء لا ميادين صراع، وبأن الحوار الصادق هو السبيل الأنجع إلى تجاوز الانقسامات وتعزيز المشترك الإنساني.

وتتويجاً لهذا المسار الإنساني المتدرج، جاءت زيارته إلى أبوظبي عام 2019 لتشكّل لحظة تاريخية بالغة الدلالة، ونقطة تحوّل مفصلية في مسار الحوار الديني العالمي، لقد دشّنت هذه الزيارة فصلاً جديداً في العلاقات بين الأديان، وفتحت الباب واسعاً أمام العالم للتأمل الجاد في إمكانيات التقارب الروحي والثقافي بين أتباع الديانات المختلفة. وقد وصف البابا فرنسيس زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة بأنها «ليست مجرد بادرة دبلوماسية، بل انعكاس حي لحوار أصيل والتزام مشترك برؤية إنسانية سامية» وهو وصف يعبّر عن عمق اللحظة وأبعادها الروحية، ويؤكد أن اللقاء لم يكن ظرفياً، بل تأسيسياً، أُريد له أن يكون نموذجاً لعصر جديد في العلاقات بين الأديان. في قلب هذه اللحظة التاريخية، برزت العلاقة الوثيقة والخاصة التي جمعت البابا فرنسيس بسيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، حيث قامت هذه العلاقة على أسس من الاحترام المتبادل والرؤية المشتركة لقيم السلام والكرامة الإنسانية، وكانت الحاضنة الحقيقية التي توّجت بإعلان «وثيقة أبوظبي للأخوة الإنسانية».

هذه الوثيقة، التي وقّعها البابا إلى جانب الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، لم تكن مجرد إعلان رمزي، بل جاءت ميثاقاً عالمياً للسلام والتعايش الإنساني، يؤكد على أن اختلاف المعتقدات والأعراق لا ينبغي أن يكون سبباً للفرقة، بل دافعا للتفاهم والاحترام.

وقد شكلت الوثيقة محاولة جريئة لإعادة تعريف العلاقة بين الأديان في ظل التحديات العالمية المعقدة، ومهّدت الطريق لمرحلة جديدة من العلاقات بين الكاثوليك والمسلمين، وقدّمت رؤية عميقة لمعنى العيش المشترك، تؤسس لمرجعيات أخلاقية وإنسانية متينة.

جاءت وثيقةُ الأخوة الإنسانية بوصفها نداءً مُلهِماً مفتوحاً للضمائر الحيّة، ودعوةً شجاعة إلى المصالحة والتلاقي بين بني الإنسان، سواء أكانوا من المؤمنين بالأديان، أم من أصحاب الإرادات الطيبة من غيرهم. لقد أرادت الوثيقة أن تشكل حاجزاً أخلاقياً وفكرياً أمام خطابات الكراهية والتطرّف، وأن تُعيد التذكير بالمبادئ الكبرى التي تشترك فيها الأديان في جوهر دعوتها إلى الرحمة، والتسامح، والإخاء.

وفي عمقها الروحي والإنساني، أكدت الوثيقة على مركزية الإيمان بالله الواحد، الذي لا يفرّق بين البشر، بل يجمعهم على قيم الخير، ويوحّد القلوب في سعيها نحو الحق والخير والجمال، رافعةً بذلك منسوب الأمل في عالم يعاني من التشرذم والتصادم. لقد رأت الوثيقة في هذا اللقاء التاريخي لحظة فارقة في مسيرة الحوار الديني، ورسّخت من خلال أبوظبي نموذجاً حضارياً متقدماً، جعل منها عاصمة عالمية للسلام، وواحة أصيلة للتسامح الإنساني والديني.

لقد تمثّل إرث البابا فرنسيس في رؤيته العميقة لإعادة بناء مفهوم العيش المشترك، في زمنٍ يشهد تفككاً في القيم، وتراجعاً ملحوظاً في المعاني الأخلاقية والإنسانية. لم يكن فرنسيس مجرد رجل دين أو زعيم روحي فحسب، بل كان ضميراً إنسانياً حيّاً، كرّس حياته للدفاع عن السلام، وصون الكرامة البشرية، وتعزيز الحوار بين الشعوب والثقافات.

وبرحيل البابا فرنسيس، لم يخسر العالم زعيماً دينياً، بل خسر صوتاً صادقاً، وثابتاً في مبادئه، ورمزاً عالمياً لحوار الأديان والتلاقي بين الشعوب. لقد كان يؤمن بأن التعدد لا يُقصي، بل يُثري، وأن السلام ليس شعاراً، بل مساراً يبني من القلوب جسراً نحو عالم أكثر رحمة وتفاهماً.

*مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.