منذ يومه الأول في البيت الأبيض دخل ترامب في عدد من المعارك، كان من شأن نجاحه في بعضها أن يعزز صورتَه كرئيس قوي، كما في تصديه لمهمة إنهاء الحرب في أوكرانيا، غير أن بعضها الآخر هدد بتقليص قاعدة مؤيديه، كمعركته ضد الحكومة الفيدرالية وحرب التعرفات الجمركية. وتنتمي معركة ترامب الجديدة ضد استقلال الجامعات لهذا النوع الثاني من معاركه.
والشائع أن دافع ترامب في هذه المعركة هو حركة الاحتجاجات على الحرب في غزة، أي الاحتجاجات التي شهدها عدد من جامعات النخبة في الولايات المتحدة خلال العام الدراسي الماضي. غير أن إمعان النظر في توجهاته يكشف السياق الأعم لهذا التوجه، وهو موقف الحركة المحافظة في الولايات المتحدة من استقلال الجامعات، وهي الحركة التي يوجد بعض من أهم رموزها في إدارة ترامب، والتي تنظر إلى الجامعات عامة باعتبارها ساحات تدريب لليسار الأصولي. ومعلوم أن نائب الرئيس الأميركي كان قد ألقى خطاباً في عام 2021 وصف فيه الجامعات بالعدو، ناهيك عما سيلي ذلك من مساهمة لترامب في هذا المجال. ويعتقد البعض أن المعركة ضد جامعة هارفارد حصراً، فيما هي قد طالت جامعة كولومبيا من قبل، كما أن هناك ما لا يقل عن 60 جامعة قيد المراجعة من قبل فِرقة العمل الحكومية المعنية بمعاداة السامية. غير أن ما جعل هارفارد تبرز وكأنها المستهدفة الوحيدة من الحملة، هو معارضتها الواضحة لسياسة ترامب.
فقد ردت برفض قاطع للضغوط، حيث صرح رئيسها بأن الجامعة ترفض التفاوض على استقلالها أو حقوقها الدستورية، وفتح هذا الموقف النار عليها من ترامب شخصياً، فوصفها بأوصاف قاسية، بما في ذلك قوله بأنها أسوأ من جامعات الدول المتخلفة، وبأنها تعلِّم الكراهيةَ والغباء، ولم يعد ممكناً اعتبارها مؤسسة تعليمية محترمة، ولا يجب أن تتلقى أموالاً فيدرالية بعد الآن، ولا ينبغي إدراجها ضمن الجامعات العريقة في العالم.. إلخ. ناهيك عن هجومه على أعضاء هيئة تدريسها، الذين وصفهم بالحمقى اليساريين المتطرفين، بل والفاشلين. ولذا كان طبيعياً أن يأمر بتجميد 2.2 مليار دولار للجامعة مخصصة لعقود أبحاث في مجالات طبية حيوية تشتهر الجامعة بتميزها فيها، كما هدد بحرمانها من الإعفاء الضريبي، كجهة تعليمية غير ربحية، ما لم تتراجع عن موقفها. وهذا فضلاً عن التهديد بحرمانها من قبول الطلاب الأجانب، والذين يمثلون نسبة يُعْتَد بها من طلاب الجامعة، إذ شكلوا خلال العام الحالي 27.5% من مجموع طلابها.
ويكفي إلقاء نظرة على الرسالة التي تلقتها إدارة الجامعة من الجهات المختصة في الإدارة الأميركية الحالية لمعرفة السبب في رفض الجامعة لشروط ترامب، فقد طالبت الرسالة بإشراك طرف خارجي للتأكد من التزام الأقسام الأكاديمية بتنوع وجهات النظر، وإعادة هيكلة البرامج الأكاديمية ذات المضمون المعادي للسامية، بما في ذلك وضع أقسام وبرامج معينة تحت التدقيق الخارجي، فضلاً عن الإبلاغ الفوري عن الطلاب الأجانب الذين يرتكبون انتهاكات سلوكية، وهي مهمة أجهزة الأمن وليست سلطات الجامعة.
وباختصار فإن هذه الرسالة تسقط تماماً مبدأَ استقلال الجامعة، وهو مبدأ يُفترض أنه مستقر في التقاليد الجامعية الأميركية والغربية عموماً، وقد أدى هذا الموقف إلى ظهور حركة معارضة قوية لتوجهات ترامب هذه تجاوزت جامعة هارفارد بكثير، وهذه قصة أخرى قد تكون موضوعاً لمقال قادم.
*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة