منذ تعرضها لأعنف هجوم في تاريخها في 7 أكتوبر 2023، حققت القوات الإسرائيلية انتصارات متتالية ضد كل من «حماس» و«حزب الله»، مما قلل بشكل كبير من التهديد الذي تشكله هاتان الجماعتان. لكن هل أصبحت القوات الإسرائيلية منخرطة بشكل مفرط وخطير في «حرب أبدية» داخل قطاع غزة؟ هذا ما أخشاه منذ أن قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استئناف العمليات العسكرية في 18 مارس الماضي.

وقد أنهى هذا القرار وقف إطلاق النار مع «حماس»، الذي بدأ في 19 يناير وأسفر عن إطلاق سراح 30 رهينة إسرائيلية وما يقرب من 1800 أسير فلسطيني. كان من المفترض أن تجري مفاوضات من أجل وقف دائم لإطلاق النار، لكنها لم تبدأ، حيث تبادلت الأطراف الاتهامات بالتعنت. ومنذ ذلك الحين، احتلت القوات الإسرائيلية البرية نحو ثلث قطاع غزة، بينما منعت دخول المساعدات الإنسانية بالكامل، في محاولة لزيادة الضغط على «حماس».

لم يحظَ قرار نتنياهو باستئناف الحرب بشعبية، حيث يعتقد معظم الإسرائيليين أن الرهائن الـ 59 المتبقين (يُعتقد أن 24 منهم على قيد الحياة) يمكن إعادتهم بشكل أكثر احتمالاً من خلال صفقة مع «حماس» وليس من خلال عملية عسكرية. وأظهر استطلاع رأي في 9 مارس الماضي أن 73% من الإسرائيليين يفضلون صفقة إطلاق رهائن جديدة على استئناف الحرب في غزة.

لكن نتنياهو لم يستطع إنهاء الحرب والبقاء في منصبه. فقد استقال من الحكومة أحد حلفائه في الائتلاف اليميني المتطرف، هو وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، بسبب اتفاق وقف إطلاق النار، ولم يوافق على العودة إلا بعد استئناف الحرب. وهدد آخر، هو وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بالانسحاب من الحكومة إذا لم تُستأنف الحرب. كان من الممكن أن يُطيح انسحاب أحزاب اليمين المتطرف بنتنياهو في وقتٍ لا يُواصل فيه فقط مُواجهة اتهامات الفساد المُوجّهة إليه، بل يتعيّن عليه أيضاً التعامل مع الفضيحة التي تحدثت عنها مؤخراً وسائل الإعلام الإسرائيلية، حيث تم إلقاء القبض على اثنين من مساعديه بتهم تلقي مدفوعات سرية. ورد نتنياهو باتهام «الدولة العميقة» بشن «حملة شعواء»، وحاول إقالة المدعي العام ورئيس جهاز «الشاباك». وتُعرض محاولات الإقالة الآن على المحكمة العليا الإسرائيلية.

وسواء كان القرار صائباً أم لا، فإن استئناف الحرب في غزة، مع ما يحيط به من فضائح، يُعد دليلاً لدى كثير من الإسرائيليين على أن نتنياهو يضع مصلحته السياسية قصيرة المدى فوق أمن إسرائيل على المدى الطويل.

فقد تظاهر عشرات الآلاف ضد استئناف الحرب، ووقّع نحو ألف من جنود الاحتياط في سلاح الجو الإسرائيلي على رسالة ينددون فيها بما وصفوه بأنه حرب «تخدم أساساً مصالح سياسية وشخصية لا أمنية». وتحت ضغط من رئيس الوزراء، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه سيقيل جنود الاحتياط الذين وقّعوا الرسالة. لكن بدلاً من إسكات المعارضة، أدت هذه الخطوة إلى إطلاق مزيد من الاحتجاجات: فقد وقّع أكثر من 10.000 إسرائيلي، بمن فيهم قدامى المحاربين في القوات الخاصة ووحدات النخبة الأخرى، رسائل احتجاج على الحرب في غزة. ويشعر حالياً العديد من جنود الاحتياط الإسرائيليين، الذين أمضوا فترات طويلة في الخدمة الفعلية منذ هجوم «حماس» في أكتوبر 2023، بحالة من الإرهاق. وقد انخفض معدل التحاق جنود الاحتياط بوحداتهم عند استدعائهم إلى 60%.

وكتب الصحفي الإسرائيلي «عاموس هارئيل»، في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية: «لم تواجه إسرائيل من قبل هذا القدر من التردد بشأن الخدمة العسكرية من قبل جنود الاحتياط، لا حتى خلال حرب لبنان عام 1982 المثيرة للجدل، ولا أثناء الانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2006». ونتيجة لذلك، اضطر الجيش إلى تقليص عدد جنود الاحتياط في غزة، والاعتماد بشكل أكبر على المجندين الإجباريين الذين لا يملكون خياراً. وتنتشر القوات الإسرائيلية حالياً في «مناطق أمنية» ليس فقط في غزة، ولكن أيضاً في لبنان وسوريا.

وفي وقت سابق من هذا العام، أرسل نتنياهو قوات الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك الدبابات، ولأول مرة منذ عقدين، إلى الضفة الغربية لطرد المسلحين الفلسطينيين. ولا تظهر عملية «الجدار الحديدي»، التي شردت 40 ألف فلسطيني من منازلهم، أي علامة على الانتهاء في أي وقت قريب. يمكن تقديم مبرر لكل عملية من عمليات الجيش الإسرائيلي، إذ أن كل واحدة منها تستهدف جماعات مسلحة تهدد الدولة العبرية.

لكن التوسع في الوجود العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، وحتى في الدولتين المجاورتين، سوريا ولبنان، يزيد من خطر انغماس القوات الإسرائيلية في صراعات لا تحظى بشعبية ولا يمكن تحملها، وقد تزرع بذور الكراهية لدى الأجيال القادمة. وتزداد خطورة هذه العمليات كونها تُدار من قبل زعيم فقد ثقة شعبه: فقد أظهر استطلاع رأي حديث أن 70% من الإسرائيليين لا يثقون بنتنياهو. وهناك أيضاً البعد الدولي: فبينما أزال ترامب الضغوطَ عن إسرائيل فيما يخص معاناة الفلسطينيين، بل واقترح تحويل غزة إلى منتجع على طراز الريفييرا بعد «تطهيرها» من سكانها، فإن تصرفات إسرائيل لا تزال تلحق ضرراً بمكانتها الدولية. وأصبح على نتنياهو الحذر في تحركاته، لأن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحقه، كما منعت جزر المالديف دخول السياح الإسرائيليين. وأظهر استطلاع جديد لمركز «بيو» أن 53% من الأميركيين، بمن فيهم 69% من «الديمقراطيين»، لديهم الآن نظرة سلبية تجاه إسرائيل. وإذا لم يدمر ترامب الديمقراطية الأميركية بشكل كامل، فإن «الديمقراطيين» سيعودون إلى السلطة عاجلاً أو آجلاً، وقد تدفع إسرائيل ثمناً باهظاً نتيجة نفور حلفائها التقليديين. بعد أكثر من 18 شهراً على هجوم «حماس»، حان الوقت لتبدأ إسرائيل في إنهاء الحرب في غزة.

لكن بدلاً من ذلك، يتوسع التورط العسكري الإسرائيلي هناك. وحتى الآن، لم يطرح نتنياهو أي رؤية لما بعد «حماس» في غزة، مما يجعل الاحتلال العسكري الإسرائيلي طويل الأمد هو النتيجة المرجحة، حيث تنغمس إسرائيل أكثر فأكثر، دون استراتيجية للخروج في الأفق.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»

ماكس بوت*

*زميل بارز في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي