سوريا واحدة من الدول القليلة التي وردت منها أخبار سارةٌ نسبياً في نهاية عام 2024 مع سقوط نظام بشار الأسد وهروبه من البلاد. فنظام هذا الأخير كان واحداً من أقسى الأنظمة على وجه الأرض. وما زالت هناك تساؤلات حول توجهات الحكومة الجديدة، ما يجعل دمشق «وجهة مطلوبة» من منظور دبلوماسي. فمعظم القوى الغربية ترسل مندوبين، وأحياناً وزراء، من أجل إجراء اتصالات مع سلطات «هيئة تحرير الشام» الجديدة، واللقاء مع مَن باتوا يتولون المسؤولية فيها الآن ومناقشة مستقبل سوريا. لكن المفارقة هي أن العديد من هذه الدول تضع «هيئة تحرير الشام» على قائمة المنظمات الإرهابية أو الداعمة للإرهاب، كما تفعل الأمم المتحدة. فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟
بالنسبة للدبلوماسيين، البراغماتية هي صاحبة الكلمة العليا. ففي إدلب، ثم في دمشق الآن، أظهرت «هيئة تحرير الشام» أن الأمور ليست سيئة للغاية. والتحدي بالنسبة للقوى الخارجية هو عدم السماح بإنشاء دولة إسلامية جديدة، والعمل بشراكة مع هذه السلطات بغية ضمان عدم نشرها للإرهاب مرة أخرى. ولذا، يمكننا أن نتوقع أن تتم إزالة هذه الهيئة قريباً من تلك القائمة.
والبراغماتية أيضاً هي ما تُظهرها سلطات دمشق الجديدة التي أبدت استعدادها للتحدث مع الجميع. فالوزير الأوكراني وعد بتقديم مساعدات في شكل حبوب، والولايات المتحدة وغيرها تضغط من أجل قطع كل العلاقات مع روسيا وإيران، خاصة أن نظام بشار الأسد لم يتمكن من الحفاظ على نفسه كل هذه الفترة إلا بفضل الدعم الذي لقيه من روسيا وإيران و«حزب الله». وما إن أُضعفت هذه القوى حتى سقط. وإذا كان حكام دمشق الجدد قد حاربوا الروس والإيرانيين، فإنهم لا يريدون أن يكونوا في مواجهة مع قوى أخرى أو متحالفين معها. والرسائل التي تصدر عنهم تفيد بأنهم سيواصلون الحفاظ على علاقات مع روسيا. ولذا، هناك احتمال أن يستخدموا هذه الورقة حتى تستطيع موسكو الحفاظ على منشآتها في سوريا. ولذا فقد أصبح مستقبل القواعد العسكرية على المحك بالنسبة لروسيا.
وهكذا، يُظهر النظام السوري الجديد نوعاً من الاصطفاف المتعدد. أما التحديات الرئيسية التي تواجهه، فهي تحديات اقتصادية بالأساس. ذلك أن البلاد باتت مدمَّرة بالكامل. ومع نهاية نظام الأسد، استولى الفساد على الموارد التي أضحت نادرة بشكل متزايد في بلد لم يعد ينتج الكثير. وعلاوة على ذلك، فإن 90 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر. وأهداف حكام دمشق الجدد، بالإضافة إلى التبادلات الدبلوماسية، هي ذات طابع اقتصادي واجتماعي أكثر.
ذلك أنهم يرغبون في إقامة علاقات جيدة مع القوى الخارجية حتى يتمكنوا من إنعاش الاقتصاد السوري. وفي هذا السياق، قرروا مضاعفة رواتب الموظفين أربع مرات، الأمر الذي سينظر إليه السكان بالطبع بعين الرضا. كما عيّنوا امرأة لرئاسة البنك المركزي لإعطائه وجهاً أكثر جاذبية. صحيح أن القادة الحاليين لسوريا ينحدرون من تنظيم إرهابي سابق، غير أنه لا يمكننا تشبيههم بـ«طالبان».
وعلاوة على ذلك، فإن التحدي الرئيس هو تحدي المصالحة الوطنية الداخلية بين مختلف مكونات الفسيفساء السورية. وهذا يثير بعض الأسئلة الحساسة جداً، وخاصة فيما يتعلق بالمسيحيين والأكراد، الذين يخشون أن تسعى تركيا، التي تدعم «هيئة تحرير الشام»، إلى تحجيم دورهم بشكل كامل. ثم هناك أيضاً قضية الأقلية العلوية التي تنحدر منها عائلة الأسد. وإذا كان الجميع تقريباً يطالبون بمعاقبة مَن تلطخت أيديهم بالدماء، فإنه يجب عدم السقوط في منطق العقاب الجماعي لكل العلويين. 
إنها تحديات دبلوماسية واقتصادية ومجتمعية بالجملة.. والرهانات كثيرة ومعقدة بالنسبة لهذه الحكومة الجديدة التي يبدو في الوقت الراهن أنها ترغب في لعب ورقة العقل والحوار، لكن أيضاً ورقة مكافحة الفساد الذي استشرى في البلاد. ذلك أن البلاد نُهبت نهباً من قبل من كانوا في السلطة والذين أتوا على مواردها المتقلصة أصلاً.
والحال أن إعادة إعمار البلد لا يمكن أن تحدث إلا إذا كان السلم سائداً في البلاد. وكل ما يمكن أن يدعم حكومة أكثر استيعاباً واحتراماً لحقوق الأقليات يجب تنفيذه قدر الإمكان. هذا الحوار لا يعني المساومة. والمهم قبل كل شيء هو عدم إغلاق الباب منذ البداية، بل يجب أن نحاول الحفاظ على حوار حازم ويقظ مع السلطات الجديدة في دمشق. والأمل هو أن يكون بوسع الشعب السوري الذي ذاق الويلات التطلع إلى أيام أفضل في 2025. 

*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية - باريس