تمر الأيام على عجل، وتعصف بالذاكرة، وتمضي السنون كلمح البصر، بلا توقف ولا استئذان. لا أستطيع إخفاء حزني وألمي لفقدانه. تذكرت أنها الذكرى العاشرة لرحيل الرجل الوفي محمد خلف المزروعي، تغمده الله تعالى برحمته. منذ ذلك اليوم الحزين، وأنا أكتب عنه كلّما مرت ذكراه في الثالث عشر من نوفمبر.. أكتب عنه بمرارة وأرثيه بحرقة، فقد كان «أبوخلف» بالنسبة لي أخاً عزيزاً وصديقاً وفياً ورجلاً شهماً قلَّ نظيره، وذلك منذ أن عرفتُه قبل أكثر من 30 عاماً مضت، عندما كان يتردد على إبله في منطقة «النعيرية» بالمملكة ليتفقّدها، فهو المحب للبادية، وعاشق التراث، وسفيره الوفي. تفرَّغ المرحوم للعمل الأدبي والثقافي في العاصمة أبوظبي، لما كان يتصف به من قدرات قيادية متميزة، وجعل من المدينة التي أحَبَّها كثيراً محطَّ أنظار المهتمين بالأدب والثقافة والتراث والإعلام والصحافة والفن والموسيقى والخط والزخرفة.. وأنشأ مؤسسات ثقافية وتراثية مهمة، وأطلق مبادراتٍ نمت وكبُرت وتوسعت، لتبقى شاهداً على إنجازاته في هذا المجال الذي أشبعه تطويراً وترسيخاً. محمد خلف كان مؤسسةً ثقافية متحركة، وبحراً غزيراً من الإبداع والعطاء لا ينضب، وطاقةً من العمل الدؤوب المتواصل دون توقف. كان يجمع بين أصالة البادية وتراثها الثقافي الأدبي الثري الخالد، وبين الإيمان بالتنوع وضرورة التجديد والانفتاح.. ولهذا لمع اسمُه بين المهتمين بالثقافة. التف حوله الإعلاميون والصحفيون والأدباء والمثقفون والشعراء، والباحثون في التراث والفلكلور.. وكان بيته في أبوظبي أشبه بالملتقى الثقافي، والمركز الأدبي العامر بالشخصيات والأسماء.. كان يعج ليلَ نهار بالشعراء. كان يوجِّههم ويدعمهم، ويسمع منهم ويتفقّد أحوالَهم، ويقف مع مَن يحتاج منهم المساعدةَ ويحتويه ويرعاه. كان صادق الحديث وفيَّ الوعد، وكان يعطي بصمت دون أن تعلم شماله ما أنفقت يمينه. أطلق العديدَ من المشاريع التراثية التي استوعبت الكثير من الشباب الإماراتيين والخليجيين، وأمّنت لهم فرصَ عمل، وكان مَن يصلح مِن الشباب للعمل في هذه المشاريع يوظَّفه فيها، ومَن لا يقدر كان يساعده ويوجهه نحو ما يناسبه. كان، رحمه الله، شعلة من العطاء المتدفق، وبريقاً من الإبداع المتواصل، وكتلة من التميز والحيوية والنشاط.. كان صاحب شخصية رزينة راسخة وملهمة، كان متفتحاً ولماحاً وفائق القدرة على بلورة الأفكار وترويضها ليجعل منها مشاريع نافعة وروافد ثرية للنمو والإبداع. كان يقبل أيَّ فكرة من أي مشارك في جلسات الحوار والعصف الذهني، وإذا اقتنع بها يطلق لها العنان مباشرةً كي تولد وتنمو وتكبر، وتصبح مؤسسة ضمن المشاريع الثقافية والأدبية الكبرى التي أشرَف عليها. أطلق المرحوم محمد خلف المزروعي معرضَ الصيد والفروسية، ومسابقات أمير الشعراء، وشاعر المليون، ومسابقات الإبل، ومهرجانات التمور والنخيل والخيول والفن التشكيلي والتصوير وبحوث ودراسات التراث.. إلخ، فضلاً عن الشركات والمؤسسات التي أسسها، وأدارها بأمانة وإخلاص ونجاح أدهش الجميع. كان شخصية فاعلة ومؤثرة في الأوساط الأدبية والثقافية والإعلامية، وكان مرجعاً للمهتمين بهذه الميادين، وقد نذر نفسه لبناء صروح كبيرة تشهد على الإنجازات التي حققها في سنوات وجيزة قبل أن يرحل تاركاً نجاحاته شاهداً على ما كان يتمتع به من وطنية وإخلاص ووفاء. كلما شاهدتُ اليوم صرحاً أدبياً أو ثقافياً أتذكر شخصيةَ محمد خلف، وصورتَه التي لا تفارق مخيلتنا، كما أتذكر الفراغ الذي تركه بين حنايا القلب باقياً مهما طوت السنون أعمارناو ومسحت الأحداثُ ذاكرتنا المثقلة بالقضايا، لكنها تأبى أن تتخلى عن ذكرى رجل ملهم لا يمكن نسيانه!
*كاتب سعودي